د. محمد بن إبراهيم الملحم
حركة المدارس المتخصصة ظهرت في السبعينات تقريبا في الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وربما تعبر إنجلترا سبقتهما بذلك فيما يسمى مدارس النحو Grammar Schools والتي وإن كانت وريثة العهد الفكتوري وعلامة من علامات التمييز الأرستقراطي إلا أن مفهوم التخصص بالإضافة إلى رعاية الكنيسة لها منذ نشأتها في القرن 16 أكسبها قيمة نوعية عالية، وهي في الواقع نشأت في حضن الكنيسة لحاجتها إلى تقوية طلابها في اللغة اللاتينية ليتسنى لهم قراءة وفهم النصوص الدينية مع أهمية البلاغة الدينية للطالب المتخصص في الكنيسة لهدف الوعظ والإقناع، ثم تمخض قانون إصلاح التعليم 1988 عن تأييد ورعاية لهذه المدارس مما شجع على انتشار المدارس المتخصصة في المجالات الأخرى كالرياضيات والعلوم والموسيقى والرياضة وغيرها، وهي في الواقع مدارس تقدم المناهج الوطنية المعتادة بيد أنها تركز على الموضوع الخاص بها مما يجعل الطالب حاذقا في ذلك المجال الأمر الذي يؤهله بقوة للتخصص فيه مستقبلا في الحياة الجامعية، وهي تكون في مدارس المرحلة الثانوية والتي تمثل في كثير من الدول الأوروبية والأمريكية ما يعادل سنوات الثانوية والمتوسطة لدينا، وقد تكون هذه المدارس في ما يعادل المرحلة الثانوية لدينا فقط كما في أستراليا مثلا، كما أنها تتواجد أحيانا في بعض الدول بدءا من المرحلة الابتدائية وهو ما يوجد في الولايات المتحدة الأمريكية تحت اسم «المدارس الجاذبة» Magnet Schools وهي مدارس أنشئت في الأساس كوسيلة لتخفيف حدة التمييز العنصري و»جذب» الأقليات إلى الأحياء التي لا يعيشون فيها، لكنما نجاح مفهوم التخصص فيها ساعد على انتشارها وعزز قوتها العلمية فكثير من هذه المدارس المتخصصة اليوم تقبل الطلاب بناء على اجتيازهم اختبار قبول، كما أن بعضها تقبل جميع الطلاب بشرط رضاهم بأسلوب القرعة بسبب الإقبال الكبير.
هناك أمثلة متنوعة للمدارس المتخصصة فمثلا مدرسة ثانوية في هونغ كونغ متخصصة في الخدمات يتخصص بها الطالب في خدمات البيع أو خدمات الضيافة أو صيانة المباني ويتعلمون المواد المختلفة من خلال أعمال هذه المهن فتراهم مثلا يتدربون على مادة اللغة الإنجليزية بمحادثات وحلول مشكلات يستخدمها موظف المبيعات أو موظف الخدمات، ويقومون بهذا في بيئة مماثلة لبيئة العمل وليس تمثيلا لفظيا في الفصول العادية مما يجعل حياتهم المدرسية أكثر مرحا وتعلمهم للغة الإنجليزية (وكذلك المواد الأخرى بنفس الطريقة) أكثر ثباتا لتماسه مع واقع عملي، وهذا ما يشير إليه الطلاب أنفسهم في بحوث أجريت لاستقصاء آرائهم حول ذلك. ومثال آخر اطلعت عليه شخصيا في أستراليا بمدرسة العلوم والرياضيات حيث طبقت هذه المدرسة نظام الفصل المفتوح فلا يوجد غرف للفصول بل الطلاب يتواجدون في قاعات المدرسة المغلقة الفسيحة والمزودة بالكنبات والجلسات والكراسي والطاولات من كل الأنواع والأحجام لينوع الطالب جلسته وأوضاعه وليجد الطلاب الذين يريدون الاجتماع للمناقشة والتعلم مكانا مناسبا لهم بحسب عددهم واحتياجاتهم، تدخل إلى هذه الصالات (أو الفصول المفتوحة) لتشعر وكأنك في قاعة أفراح من حيث الحجم ولكن التأثيث والوسائل المتوفرة هي جو مدرسي (أو قل جامعي) يشجع على التعلم التعاوني ويشعرك بالراحة وعدم الرسمية، المعلمون لا يتواجدون في هذه الأماكن بل في غرفهم والطلاب يأتون إليهم متى ما احتاجوا فالتعلم يتم ذاتيا بواسطة الطلاب أنفسهم أغلب الوقت والمعلم قد يأتي ليشرح ويساعد ويوضح بعض الجوانب التي لم يتمكنوا منها بأنفسهم. المعامل عالم آخر، فهي مزودة بكل ما يحتاجه الطالب ومستوى المعلمين والفنيين الذين يعملون في هذه المختبرات لا يقل عن الماجستير ولديهم كفاءة عالية تلتقي مع طموحات وقدرات هؤلاء الطلاب الذين «يعشقون» العلوم والرياضيات. يتعلم الطلاب مختلف المواد الأخرى غير العلوم والرياضيات تماما كغيرهم من طلاب الثانويات الأخرى بيد أن التركيز هنا على هاتين المادتين، وهو أمر يروي شغفهم ويحسن قدراتهم التفكيرية بما يقدح تفوقهم في المواد الأخرى أيضا. تأملوا معي حال الطلاب العاشقين للعلوم والرياضيات في مدارس عادية يختلط فيها هؤلاء بالطلاب العاديين أو النافرين من هذه المواد كيف ينمو شغفهم أو يتطور ويثمر!