عبدالعزيز السماري
أصبح ما قاله الإمام مالك في الخمر يُضرب به المثل في ذم الشيء، ولذلك يٍُقال «قال ما لم يقله مالك في الخمر»، حين ترتفع الأصوات في مذمة شيء ما، وفي الإرث العربي نافس ذم الوشاية قولاً ما قاله مالك في الخمر، فقد أفرد له الشعراء والأدباء القصائد والمقولات، كان أشهرها ما قاله شعراً كعب بن زهير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم ،،،، أذنب ولو كثرت عني الأقاويل..
كان للوشاية صولات وجولات في مسائل الغرام والحب، والتي عادة ما تنطفي بسبب نجاح وشاية، أو تنكسر بسبب قول مغرض لواش، والواشون يوجدون في مختلف المجالات، وعادة ما يستخدمونها للوصول بأسرع الطرق لأهدافهم، لكن الميدان الأخطر للوشاية كان وما زال ما يحدث في دهاليز السياسة خلف الأحداث، فما يحدث فيها هو أقرب لمباريات التصفيات، والتي عادة ما تنتهي بفوز أحدهم، وإنهاء آخر، وهكذا..
كان للوشاية وجه آخر في المجتمعات التي يحكمها القانون، إذ يعتبر الواشي في مواجهة المتهم الأكبر بمثابة النقلة الأخيرة في لعبة الشطرنج، فيما يُعرف بكش ملك، وعادة يكون هذا الشاهد متورطاً في جرائم، لكنه ينال البراءة حين يشي بالمتورطين الآخرين أمام القاضي، وقد اشتهرت عصابات المافيا بتصفية كل من تشكك في ولائه، وهو أسلوب ينمو كلما زادت مشاعر الخوف وطغت أجنحة الظلام على العمل السري في المجتمعات..
كان مارك فليت أشهر الوشاة في التاريخ السياسي الحديث، وكان الرجل الثاني في «مكتب التحقيقات الفيديرالي» الأميركي اف بي آي، و أسهم في إسقاط الرئيس الأميركي السابق ريتشارد نيكسون، من خلال تحوله إلى ما عُرف بالحنجرة العميقة كأشهر مصدر مجهول في التاريخ الأميركي حين قدم معلومات لصحيفة «واشنطن بوست» عن تورط نيكسون في فضيحة «ووترغيت»، والتي انتهت باستقالة الرئيس الأمريكي.
لكن الوشاية في المجتمعات المتخلفة في عصور التاريخ القديم، فيما قبل ثورات الحداثة والقانون والمجتمعات المدنية، كان لها صولات وجولات في صعود الدول وسقوطها، فالحاكم في قديم الزمان كان بمثابة الغضب المتفجر، والمهيئ للانفجار في أي لحظة، والانتقام ممن يكيدون له في الظلام، وكان ينتظر قول الوشاة من أجل إطفاء مشاعر الغضب والشك فيمن حوله..
وهو ما يعني أن الوشاية كانت تحكم بشكل غير مباشر المجتمعات التي يحكمها الطغاة بالدم والحديد، ونجاح الواشي يكمن في قدرته على إقناع الطاغية بالوشاية، ولهذا تنتشر التصفيات الجسدية في تلك المجتمعات في ماراثون أقرب لتصفيات الموت، وعادة ما تصل مشاعر الرعب فيها إلى أقصاها، ولا تتوقف سيادة ثقافة الوشاية عند حد المعين، ففي طغيانها تحريض على انتشار ثقافة الخيانة في مختلف الاتجاهات كوسيلة لتحقيق الأهداف، وعادة تنتهي بالدمار الشامل لكل المكتسبات الوطنية..
انتشار الوشاية هو نتيجة مباشرة للاستبداد والطغيان والدموية والأحادية، وهي إفراز مرضي لعملية قتل الشخص القانوني في الإنسان بسبب إعدام سابق لأبعاده الأخلاقية في وعيه المدني، وبالتالي تحويله إلى أداة تعبث بالحقيقة والأمن المجتمعي، وإلى فم يأكل، ولسان يشي، وإلى عدو في هيئة صديق، وقد اختزل القاضي الفاضل ذم الوشاة في بيته الشهير، لا تَقبَلوا قَولَ الوُشاةِ فَإِنَّهُم،،،،،، كانوا لَنا في حُبِّكُم أَعداءَ.