د.فوزية أبو خالد
كان بودي أن أفعل مثل ما فعلت اليونسيف منظمة الطفولة بالأمم المتحدة الأسبوع الماضي وأطلب من رئيس التحرير أن ينزل تحت عنوان مقالي ذلك الفراغ المريع الذي يشبه ببياضه وبرودته واتساعه وغموضه فوهة اللحود المتناهية التي تفتح أحضانها لتستقبل جثث أطفال سوريا المتفحمة من حرائق الحرب المفتوحة لسبعة أعوام والمتوردة من حرائق الغازات الكيمياوية القاتلة المستمرة لسبع سنوات.
أثناء متابعة كل أخبار مذابح الشعب السوري بالصوت والصورة بالحركة السريعة لموت بطيء يمزق الأحشاء خلية خلية, يتسلل للجسد مسامة مسامة ويفرط الأجنحة ريشة ريشة, وخلال ملاحقة أخبار المذابح لنا بالصوت والصورة بالحركة البطيئة لموت سريع مريع صاعق يسلخ البشرة دفعة واحدة يجز الأطراف الأربعة دفعة واحدة يلفظ الأنفاس في شهقة واحدة أقوم بغسل بصري بغسل سمعي بغسل كفيً بغسل ضميري بغسل عقلي, استمر في الغسيل كالمصابون بالوسواس القهري دون جدوى. فالحقيقة والواقع والشيء المؤكد الوحيد وسط هذا الحريق المفتوح والمحاق المغلق أن ليس على الأرض أنهار ولا شلالات ولا بحيرات ولا مياه جوفية ولامطر ولانوافير ولابحر يكفي لتطهير أي منا من دماء أطفال سوريا.. نساء سوريا.. شعب سوريا الذي يذبح حيا ويسلخ حيا ويسحل حيا ويحرق حيا أمام الكاميرات أمام عيون العالم وأمام عمائنا جميعا دون استثناء, دون أن يحرك خروج الجحيم من النص بل ومن المخيلة إلى الشارع، مظاهرة تضامن أو إصبع احتجاج. كأننا جميعا في سكوننا أمام عواصف الحرب على الشعب السوري من الجهات الست نمثل إما جبن الجلاد أوجبروت الضحية أوربما يجتمع الاثنان فينا معا في حالة مرعبة نادرة من التعالق السيامي القاتل.
ليس منا من يستطيع أن يقول لماذا لم يدق الأطفال الصهريج كتلك الملامات التي وجهت للفلسطينين في رجال غسان كنفاني تحت الشمس.
وذلك ببساطة مخزية لأن كل صافرات الإنذار وكل نواقيس الخطر وكل أجراس الاستنجاد الموجودة في العالم تدق اليوم دقات علنية مجلجلة ودقات جنائزية حزينة طويلة عن المحاق المحيط بأطفال سوريا وعن الحرائق والغازات الحارقة التي تجعد وجوه الأطفال دون أن يبدو بأن هناك من يسمع أو حتى ينتبه لصرخات الحناجر المتقيحة التي تقطع النياط.
ليس منا من أحد إلا وقد أنقلب ليكون أحد القردة اليابانية الثلاثة /لتوشوجو/ أو جميعها التي لا ترى لا تسمع لا تتكلم في تلك المحاولة الفاشلة للتخفف من ملامات التورط بالصمت وبالمشاهدة، أي بالصوت والصورة في دم أطفال حلب وأدلب ودير الزور وريف الشام والغوطة الشرقية، وكل شبر من أرض بلاد الشام الواقعة بين سندان نظامها السياسي المتوحش وبين وحشية المليشيات الإيرانية والجيش الروسي وشبكة معقدة من مافيا القوى الإقليمية والدولية.
كتبت النيورك تايمز مقالا طويلا الأسبوع الماضي بعنوان تساؤلي جريء يقول :» من يغسل الأيدي الملطخة بالدماء؟؟؟». وهو مقال يرفع في وجوهنا جميعا إصبع الإتهام. فتقتيل الشعب السوري وأطفال سوريا على مرأى من المصورين والمخرجين ومعدي البرامج ومقدميها وأمام ملايين المشاهدين عبر العالم ممن يتابعون بدم بارد او بشرايين خالية من الدماء وعيون خالية من الحياء تعدت ما يسمى بقضية ضمير عام تجاه الجريمة؛ لتصبح قضية ضمير عام تجاه المناخ العالمي العام الذي يسمح لشهود الجريمة بالجلوس في هدوء على مقاعدهم وكأنهم لايشاهدون جريمة حية تدار على أرض الواقع بل يشاهدون دراما تلفزيونية أو فصلا مسرحيا وإن «تترطشوا» بنوافير الدم المنطلقة أمامهم من جثث المدنيين والأطفال.
أربعمائة ألف محاصر, مؤخراً ولايبدو آخرا, في الغوطة الشرقية وخمسمائة قتيل معظمهم أطفال وجرحى وطواقم طبية ونساء. وهذه عينة عشوائية للكيفية التي صُفي فيها أمام كاميرات حية وضمائر ميتة خمسمائة الف مدني من الشعب السوري منذ العام 2011م لمجرد أنه تجرأ ووقف أمام جلاوزة نظام البعث الطائفي الدموي ليطالب سلميا بإصلاح سياسي. تتساءل الصحيفة من خلال استطلاعات الرأي والتحقيقات الميدانية مع عدد من أصحاب الرأي والفكر ومن الواقعين بين مطرقة الحصار وحجر التهجير, كيف استدعى رفع مطلب بسيط كمطلب الشعب من النظام الحاكم بالإصلاح إلى استدعاء واستعداء قوتين خارجيتين أحدهما إقليمية والأخرى دولية متمثلتين في ميليشيات التوحش العسكري الإيراني والتدخل الإحتلالي العسكري الروسي لقمع ذلك المطلب المشروع بكل تلك القوى البربرية من قوى جيش النظام والقوات الخارجية التي يستقوي بها النظام على حساب شعبه وعلى حساب كل معنى من معاني السيادة الوطنية والإستقلال .
أما صحيفة الجارديان البريطانية فقد نشرت الأسبوع الماضي أيضا بالتزامن مع حملة استنفار الرأي عالميا لعله ينتفض إزاء الجرائم البواح التي ترتكب في حق الشعب السوري على رؤوس الأشهاد مقالا «يبرد القلب الحر» للكاتب جوناثان فريدلاند أطلق فيه صرخة غضب أمام غياب أي مظهر من مظاهر الغضب العالمي إزاء حمامات الدم اليومية وعلى مدار أربع وعشرين ساعة لسبع السنوات الجارية على أرض سوريا. وقد ذكر فيه كلاما تنتفض له الكرامة وتقشعر له الأبدان لو كان بها رمق. ومما قال: « صارت أصوات الأطفال المرعوبة الباكية المستصرخة خلفية حزينة وجوقة معتادة لهذا العقد».
والواقع أن هذه ليست حربا قذرة وحسب بل إنها مجازر جرائمية عشوائية ومنظمة ومستدامة يقوم بها نظام سياسي وعسكري فقد شرعيته تماما ولكنه يمضي في سياسة الحديد والنار والغاز ضد الشعب لصالح دكتاتوريته ولصالح دوره الحقير كسمسار لشبكة معقدة من تضارب المصالح اقليميا ودوليا. وهذه الجرائم في حق المجتمع المدني السوري لن تتوقف برأي جوناثان وبرأي أي عاقل مالم يكن هناك موجة من الغضب العالمي على مستوى شعبي وإعلامي تجاه جرائم النظام العظمى ومالم يكن هناك عقاب دولي قاس ومحاسبة صارمة للنظام على جريمة حرق الأرض والإنسان في سوريا من أجل بقاء النظام.
فلا أقل من عدم التوقف عن وقفة غضب بالقلم وبالضمير والاحتجاجات الشعبية على الجرائم المتعمدة التي تذبح الأطفال على رؤوس الأشهاد وفي وضح النهار فتحول الأرض السورية بتعبير انطونيو جوتيرس الأمين العام للأمم المتحدة إلى تجسيد فعلي للجحيم على الأرض.
صحيح ليس من كلمات تكفي للتعبير عن كارثة الشعب السوري ولكن أيضا لن يكون هناك كلمات تكفي للحديث عن كارثة الضمير العالمي في نفسه وفي قيمه لو لم تنتفض الأقلام الشريفة والحناجر النزيهة على استمرار الكارثتين.