عبده الأسمري
في عراك مستديم بات في أوج رحاه خلال العقد الأخير بين الورق وبين التقنية.. حتى بلغت التنبوءات أعلى مداها في انعدام الأوراق وهجرة الكتابة من مجالها اليتيم لتظل محصورة في أجهزة تقنية تقلبها أنامل الأيادي باللمس والتصفح.. وأوشك عدد من المترعين بأحوال التقنية أن يعلنوا نقل القلم عبر تابوت إلى مثواه الأخير ليظل دوره محصورًا في إطار أناقة تكميلية أو كتابة اضطرارية.
ولكن الورق والقلم والكتابة دخلوا في مغامرة انعتاقية من أهوال التقنية لائذين بجانب عشاق الحرف وسدنة الكلمة وخزنة العبارة.. فالكتاب الورقي لا يزال مستميتا واقفًا بشموخه وقامته وهامته بين أركان معارض الكتاب.. حاضرًا على طاولة المتيمين بالقراءة ناضرًا بين صفوف المسكونين بالمعرفة..
أتساءل دوما كيف لفنجان قهوة أن يكمل مشهد المزاج دون رائحة الورق وبلا نشوة الكلمة ودون امتزاج بن معتق بنص منمق.. وكيف لصباحات المطر أن تحتفل دون أن تسكب شذاها ومنسم عطرها على صفحات الكتابة.
من أديم الجلد وحتى الورق الحديث ومن ريش الطير وحتى أقلام الماركات العالمية حضرت الأقلام وسادت الصحف وتعالى صوت الإنسان مكتوبًا وتجلى ضمير البشرية مشفوعًا بالبوح في سياق الكتابة وتحت مجهر القراءة.
القراءة حياة وتوظيفها عبر القلم والورقة يشكل دهرًا للثبات وآخر للتحول ويجعل اللوذ بها عودة إلى الجبلة الأولى التي تعانقت مع الكتابة ورصفت حروفها في سياق أولي بين الاسم والأمنية ونثر معانيها من العلم والتعلم والعودة إلى أصول الكينونة والوجود.
عندما نتصفح الكتاب من لوحة صماء وتصفح أرعن يتشابه فيه الصبية مع الراشدين ويتساوي فيه المثقف مع الجاهل فنحن أمام عادة جائلة رسمتها تقنية جوفاء كنا نحتاجها في القفز على أسوار البطء أما معاقرة الكتب والحياة بين الأوراق والأقلام فهي بطء لذيذ يفضي إلى تحليل وتريث يرسم ملامح الفهم وهدوء يبلور رونق الأدب.
عندما تركت الأوراق على ناصية التطور التقني الزائف الذي خلط بين الثقافة وبين الاطلاع على العالم عبر منصات تنقل الخبر والصورة في دقائق معدودات فقد تعثر الفهم وتأخر التعلم كثيرا.. اختلطت حروف اللغة بخربشات وشعوذات غيبت الخط العربي ووأدت الإملاء وصادرت اشتياق القلم وأهملت حنين الورقة.. وظلت كما هي حاضرة في أجهزة تنقل روح الغياب القسري عن روح الثقافة الحقة.
لم ولن يغيب الورق الذي لا يختزل في صحيفة أو كتاب أو مخطوطة أو وثيقة بل إنه الحاضر في جنبات حياتنا مستمطرا مداد القلم ومستعمرا روح الباحثين عن الألق الفكري الذي لا يمكن أن نجدة في أجهزة تحركنا أكثر من أن نوجهها.
من يشبع غرور ذات كتبت ثم قرأت فتعلقت بعظمة الحضور ودلفت إلى دهاليز الجهل لتنير أعماقها بإضاءات العلم المكتوب الخالد ومن يروي ظمأ عقول ترى أن القلم سلاح لكل أعزل من أدوات المقاومة وسيف يقين يميز البطولة الاستثنائية في ميادين «الثقافة» وصدى ينعش أرواحنا الموغلة في رتابة «التقنية» وكآبة «لوحات المفاتيح».
القلم مفتاح سري لفك رموز خزائن العلم والورقة خارطة تكتب عليها الطرقات الموصلة إلى الكنوز المفقودة في مساحات المعرفة والابتكار والاختراع والبحث.
مهما بلغ مدى التقنية فإن صرير القلم وصيرورة الكتابة ستظل التفاعل الأول والمفاعل الثقافي الأمثل الذي يجعلنا كائنات تفكر وتبتكر ترفض هيمنة «الفضاء الافتراضي» لتعلن تمسكها بالفرح الأبدي والمهجة المستديمة في حضرة المتعة الأدبية الأبدية أمام سطوة الورق وحظوة الكتابة.