د. حسن بن فهد الهويمل
أكثر من مئة ألف تغريدة، انبعثت كريح عاصف، لتُضيف أعباءً ثقالاً إلى أعبائنا، لمجرد التبرير، أو التثبير لمثير [زيارة النساء للقبور]، وكأننا قد فرغنا للتو من كل همومنا، ولم يبق إلا هوامش المسائل، وفضول القول.
لم تكن تلك [بنت الدهر] الوحيدة، لنسائلها، كما ساءلها [المتنبي]:-
[أبِنْتَ الدّهْرِ عِنْدِي كُلُّ بِنْتٍ
فَكَيْفَ خَلُصْتِ أَنْتِ مِنَ الزِّحَامِ]
لقد كنا مع تغريدات نكرات، وفتاوى غرائبيات حول: سائر المصطلحات الإسلامية المختطفة من بين أيدينا بأيد المتطرفين، والطائفيين، والمذهبيين، والحزبيين. وكأننا ماسمعنا بذلك في آبائنا الأولين.
أو كأننا لم نقف على كتب الاختلاف التي سماها البعض من علمائنا الأوائل بـ[كتب الرحمة] لما تجْلبه من سعة للمضطرين.
أو كأننا لم نعرف كتب المذاهب المعتبرة، المُعْتَمِدَةِ على الرأي، كـ[الأحناف] أو المعتمدة على النصوص كـ[الحنابلة]، و[أهل الحديث].
مانسمعه، ومانشاهده يؤكد أن لدينا شيئاً غير قليل من الخلل الفكري، والفراغ المعرفي، والجهل الذريع بـ[علم الأصول]، وشروط [الاجتهاد]، و[المقاصد]، و[المصالح]. واختلاف الفتوى باختلاف الأحوال، والأزمنة، والأمكنة.
ومثلما أن لكل بلد رؤيته في [هلال رمضان]، فإن لكل مذهب، أو عالم حق الاختلاف في الأحكام:- [فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أوْعَى مِنْ سَامِعٍ]. واختلاف الأفهام أَقرَّها الرسول صلى الله عليه وسلم، كما في قضية [صلاة العصر] في [بني قريظة].
علماؤنا الأوائل يتجاورون في حلقات الدرس، والمدارسة في [الجوامع] وما أحد منهم عاب على أحد ما ذهب إليه. متى كان الاختلاف محققاً للمقاصد الإسلامية، ومحافظاً على مصالح الأمة.
والأشياع الجهلة، العاطفيون هم الذين تعصبوا، وضاق عَطَنُهم، ثم ساءت علاقاتهم.
العلماء الأكفاء يرصدون الاختلاف، ويواجهونه باختلافٍ مثله، وكلهم يمشون رويداً في فضاءات النصوص الحَمَّالة، ولا يطلبون صيداً لأنفسهم، فهدف الجميع الحق، ومتى بدت لهم بوادره، هرعوا إليه، وإن تم على يد خصومهم. كما أثر عن الإمام [الشافعي].
ولو قرأ الفارغون الأضوائيون المزايدون المستفزون الخليون كتب [الفقه المقارن]، ورحابة صدور الفقهاء، وثقتهم ببعضهم، وتمكين بعضهم لبعض كي يقول كل مجتهد كلمته، ثم لا يجد مُجَايلُه حرجاً فيما يذهب إليه، ولايجد مبررا لاتهامه، وتجهيله، وإقصائه، لاستقامت أمور الأمة.
كل عالم ممتلئ بالمعرفة، والحكمة، والتجربة يلهث وراء مُخَالفيه، ليتعرف على مصادرهم ، وقواعدهم، وأقيستهم، وطرائق بحثهم. فإما أن يسلم لهم، فَرحاً بتنويرهم، راضياً، واثقاً بالعدول عن رأيه. أو لايجد عندهم أفضل مما عنده، فيثبت على رأيه معتزاً بنتائج بحثه، ملتزماً بالعودة إلى جولات معرفية، تثري المشاهد، وتؤصل المعارف، وتحرر المسائل.
فالعلم بحر لجي، إذا أعطيته كُلَّك، أعطاك بعضه:- {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}. {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}.
جرجرة شواذ المسائل، و غريب الخلافات، وطرحها أمام العامة الذين لايسعهم إلا التقليد، وسؤال أهل الذكر، لاتزيد المشاهد إلا خبالاً.
والاستخفاف بآراء العلماء المشهود لهم بالعلم، والتقى، والحرص على مصالح الأمة: الخاصة، والعامة اْفتِئآتٌ على الرأي العام، وتشكيك بمنهج الأمة. وتشبع فارغ، ولباس زور لايستر:- {وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ}.
الدول الإسلامية لها [مرجعياتها] الدينية: رجالاً، وأمات كتب. والتسليم لها جزء من الولاء للوطن، وسبيل من سبل وحدة الأمة، وتماسك جبهتها الداخلية.
ومن وجد في نفسه الكفاءة المعرفية، وامتلك حق الاجتهاد، فحقه أن يتواصل مع المؤسسات الرسمية، ليقدم لها نتائج بحوثه الموثقة في أصول المسائل، وفروعها. وذمته تبرأ بذلك، وإن أصروا على المفضول.
وليس هناك ما يمنع من طلب المناظرة، داخل دوائر مغلقة، والخروج إلى الناس بفتيا من [المؤسسة الدينية] المعتمدة من [ولي الأمر]. وهذا لايكون إلا في النوازل التي قد تتأخر المؤسسات الدينية في حسم الموقف منها، لأي سبب.
أما المسائل الخلافية التي وسعتها كتب الأسلاف، فإن لكل دولة علماؤها الذين يرفعون الخلاف بالترجيح، ويقرون مايناسب الأمة، وماتقوم به الحاجة، وإن كان مَفْضُولاً.
ومن المناهج الأصولية التي تقتضيها [البيعة الشرعية] أن [ولي الأمر] يرفع الخلاف، متى أقر رأياً: فاضلاً كان، أو مفضولاً، إذ من حقه المنع من المباح لمصلحة الأمة.
فإذا اختلف العلماء، وأنضجوا المسائل، وجب على [ولي الأمر] حسم الموقف، باعتماد مايراه امتثالاً لقوله تعالى:- {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}.
لقد حُسِم الخلاف في كثير من المسائل المختلف حولها، ولا يسع الكافة إلا الامتثال، لأن تعدد المرجعيات الدينية مؤذن بفساد كبير، و[لولي الأمر] حصر الفتوى، وعلى العلماء الامتثال. وليس في ذلك أثرةٌ، ولا غضاضة، ولا تسلط.
خطلنا، وخطؤنا أن مرجعيات [أهل السنة، والجماعة] مهمشة، وهي الأحق بالسمع، والطاعة، فيما تظل مرجعيات غيرها مطاعة. وهي دون ذلك.
و[عاظ القنوات] ليس من حقهم التصدر للفتيا، والأخذ بما عدل عنه علماء الأمة، وإن كان مَفْضولاً.
فالمسائل الخلافية ليست مسوغاً لفتح باب الرخص، والأخذ بشواذ الأقوال، والتباهي أمام النظارة، والتشكيك بالعلماء الأكفاء المكلفين من قبل [ولي الأمر].
علماؤنا الذين وثقت بهم الدولة، واعتمدت عليهم في الفتيا، يعرفون مسائل الخلاف، ويعرفون أن سلفهم اختلفوا حول [صلاة الجماعة]، و[زيارة للقبور]، و[شد الرحال] غير ذلك، ولم يَخْفَ عليهم شيء من ذلك.
ولكنهم جنحوا إلى الأسلم، والأحكم، واختاروا للأمة مايرونه الأفضل لها، والأنسب لأحوالها، والأرأف بها، والأصلح لها.
والذين يُسَوِّقون أنفسهم الكاسدة، لايجدون أفضل من شواذ المسائل، ورخص العلماء. تمتد إليها أيديهم مما تيسر من كتب التراث.
والعامة، وأنصاف الكتبة، والفارغون يطيرون بها فرحاً، ويظنون أن علماء أمتهم يجهلون مثل ذلك. ويظنون أن من تصدروا لمثل هذه الإثارات من المصلحين، المجددين، الذين بشر بهم من لا ينطق عن الهوى.
لقد تقحَّم من لايَكُفُّون الغيبة عن أنفسهم، مسائلَ الخلاف، وأثاروا مشاعر العامة بإطلاقاتهم غير السوية، وادعاءاتهم غير الراشدة، وتشبعهم الزائف.
ومايمارس عبر القنوات، والمواقع لايعد من [حرية الفكر] التي ينشدها المفكرون، والعلماءُ، والفقهاءُ.
أنا ضد الجمود، وضد التهيب، ومع التجديد، والتنقية، والتصفية لأحوال الناس ونصوص التشريع، ولكن بطرق معرفية منهجية، وممن هم أهل للاجتهاد.
الأمة السوية تحكمها المؤسسات، ولايحكمها الأفراد، وللمؤسسات خبراؤها، وعلماؤها، ومستشاروها، ومناهجها.
والبحوث، والدراسات [الأكاديمية]، والتأصيل، والتحرير للمعارف، والمسائل متاح لذوي الاختصاص.
والرسائل العلمية، وبحوث الترقية، وبحوث المؤتمرات، تنتاب المسائل، والنوازل، وتحررها، وتؤصل لها، ومامن أحد ضاق بشيء من ذلك.
المرفوض تتبع الرخص، وشواذ المسائل والخروج على علماء المؤسسات من فئة تندل شواذ القول ندل الثعالب، مُتَعَمِّدةً شق عصى الطاعة، والخروج على إجماع الأمة، وبلبلة الرأي العام، دون معرفة بأصول الفقه، والحديث، والتفسير، وعلومها، ومناهج البحث العلمي.
فذلك كله مؤشر جهل، وفراغ، واعتزال، لايسنده علم، ولا يُثْبِّتهُ حلم، ولا تهديه تجربة:- {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}.