د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
كثر القيل والقال عما يسمى في الإعلام الجديد أو الإعلام الاجتماعي، وتنبأ البعض بأفول الصحافة الورقية لعجزها عن منافسة الإعلام الجديد الذي يتميز بالرشاقة، وسرعة الوصول، وكثرة الخيارات، وسهولة الهضم.وفي كل مرة تظهر وسيلة إعلام جديدة يبدأ التنبؤ بأفول وسائل الإعلام التقليدية التي قبلها.فبعد ظهور السينما تنبأ بعض الباحثين باختفاء المسرح، وظهر التلفزيون فكتب البعض عبارات نعي للإذاعة وهلم جرا، ولكن مع الزمن ازداد المسرح جاذبية، وانتشرت الإذاعات بشكل غير مسبوق.
وهنا يمكن القول إن الإعلام في عمقه واحد، وما تختلف هي وسائل الإعلام، ولذا فالنظر للإنترنت على أنها عدو للصحافة الورقية فيه الكثير من المبالغة لأنه يمكن أن يكون عونًا لها.والعامل الأهم في الإعلام سواءً ورقيًا أو إليكترونيًا جودة المادة الإعلامية، وتحقيق تطلعات المتلقي للمادة الإعلامية، فما الذي حدث؟ تخلت بعض الصحف فيما مضى من عقود عن دورها الإعلامي الحقيقي الذي يعتمد على التحليل الموضوعي والنقد البناء الذي يحقق تطلعات المتلقي ويثري عقله وخياله، استعاضت عن ذلك بالاعتماد على الإعلان السريع كمصدر رئيس للدخل فأصبح الإعلان هو الهدف الأول والمادة الصحفية الجادة التي تجذب القارئ هدف ثان.وبدأ الاهتمام بالثقافات الشعبوية والرياضية والتركيز عليهما لجذب العامة للإعلان.ونجحت كثير من الصحف الورقية في هذا المسعى.وبدلاً من أن تسهم بعض الصحف في رفع وعي المجتمع وتوسيع قاعدة المتلقين لها أسهمت في تسطيح الثقافة المجتمعية بالتركيز على ما يجذب الإعلان والمعلن.
أي أنها أسهمت هي في تهميش وتسطيح المتلقي الطبيعي لها.
ليس سرًا أن الإعلان والدعاية هي مصدر دخل أساس للصحف، وهو المجال الأكبر الذي يحتاج للصورة المؤثرة والعبارة الموجزة، وسرعة الوصول، وهنا لا يمكن للصحافة الورقية أن تنافس الإعلام الحديث والإنترنت.لكن الإعلان التقليدي التجاري فقد الكثير من بريقه وقيمته الإعلانية مقابل الإعلان الذي يعتمد على التوعية والجدة التي تتميز بها بعض البرامج الاستطلاعية سواءً على التلفزيون أو الإنترنت، وهي طبعًا برامج إعلانية تحتاج لمساحة أكبر مما تقدمه صفحة الجريدة الورقية.كما أن جمهور الثقافة الشعبوية وجد في برامج الحوار التلفزيونية التي تعرضها الفضائيات مادة أكثر إثارة مما يكتب في الصحف.
المنافسة الإعلامية تتطلب ليس فقط النجاح المرحلي بل القدرة على التنبؤ المستقبلي والاستمرارية، وهذا ما قامت بها الكثير من الصحف الورقية الناجحة حول العالم حيث غيرت من أسلوبها وطرق تنويع دخلها ولم تستلم للمنافسة الإليكترونية بل استغلتها لصالحها.فالفضاء الاليكتروني متاح للجميع حتى ولو كانت المنافسة فيه أشرس.وهذا الفضاء يتيح للصحف الوصول لعدد أكبر بكثير من الجمهور المتلقي، ويتح لها مساحة إعلامية أكبر، وإدارة أسهل لموادها الإعلامية والإعلانية لكنه يتطلب تطوير مواد إعلامية جاذبة متميزة عما يطرحه الإعلام الاجتماعي.فالصحافة لا يمكن أن تنافس هذا الإعلام في مجالات مثل سرعة نقل الخبر، ولا يمكن أن تتحول لموقع في الفيسبوك، أو مغرد في تويتر، ولكنها تستطيع أن تقدم ما هو أهم من ذلك لو طورت مادتها الإعلامية.
فالمتلقي اليوم أكثر وعيًا من ذي قبل ويتطلب مادة تخاطب وعيه وتحترمه حتى تكون منافسة في الخيارات الكثيرة المطروحة أمامه.فالمنافسة تحولت لنوعية بدلاً من كمية.فالصحف العالمية الجادة الناجحة جميعها استفادت من تطورات الإعلام الحديث فزاد انتشارها ودخلها، بل إن انتشارها الإليكتروني أسهم في إنعاش مبيعاتها الورقية.وهناك أبحاث تشير إلى أن العلاقة بين القارئ والكتاب الورقي لا يمكن تعويضها بالقدر نفسه بالكتاب الإليكتروني، وربما انطبق ذلك على الصحافة.
فما يسوق للمادة الإعلامية أمران: الأول، جودة المنتج الإعلامي بحيث يضيف للقارئ إضافة نوعية يحس معها أنها تعادل ما يصرفه من مال وجهد؛ والأمر الثاني، تحقيق تطلعات المتلقي، فالمتلقي يسعى للوسيلة الإعلامية بتوقعات وتطلعات معينة، أي باحثًا فيها عن أمور يتطلع لها.وعندما لا ترضي الوسيلة الإعلامية تطلعاته يبدأ بالعزوف عنها.
أما المعلن فيبحث عن الأرخص والأسعر والأوسع انتشارا، لكن المتلقي اليوم لم يعد يلقي بالاً للإعلان التجاري، لأنه يمثل وجهة نظر البائع فقط، وهذا سبب رئيس لتراجعه.
باختصار، على الصحف اليوم أن تستفيد من الإمكانات التي توفرها الوسائط الإليكترونية، وبدلاً من استمرار الشكوى منها على أن تتكيف معها وتستغلها.لكن ذلك يتطلب تغييرًا في المادة الصحفية من حيث الكيف لا الكم.
وهناك فضاءات إعلامية لا حد لها يمكن للصحف الورقية أن تطرقها للتحول إلى صحف اليكترو-ورقية تحسن من وضعها، وتزيد من دخلها.فكثير من وسائط الإعلام الاجتماعي بدأت تفقد بريقها لإدراك المتلقي ضعف مادتها، ولتدخل الأجهزة الرقابية على كافة المستويات الإقليمية والدولية بالحد من الفوضى غير المسؤولة فيها.والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه.