د. خيرية السقاف
حين يُفتح كتاب الزمن يُفاجأ الإنسان بما مرَّ به, ثم غاب,
سقط من واجهة ذاكرته, ونسيه..
يستعيد فيما دوَّنه الزمن تلك اللحظات من عمره, التي مرت
بفرحه, بحزنه, بنجاحه, بفشله, مترفة, ضامرة, ريانة, جافة..
الزمن لا يُغفل خطوة, ولا يدفن لمحة في كتابه ..
فهو مستودع, بما كان, لا زيادة فيه, ولا نقصان..
وحين يتاح للمرء أن يُفتح له الزمن على يد بشر,
فإن منهم من يتلو عليه صدق ما فيه, ومنهم من يضيف, أو يقفز عما فيه..
إذ ليس من يفتح له دفتر الزمن منافق, أو كاذب, كمن يفتحه له صادق أمين..
فالمنافق يلوِّن, يضيف, ويزخرف, والكاذب يطمس, ويغير,
يوجِّه ما يقرأ منه وفق بوصلة هواه, ومبتغاه..
أما الصادق فمن ثلة, والأمين من قلة..
محور الشك في دقة ما يتلو, هو ما يعتري ذاكرة البشر من الضعف..
هذا كتاب الزمن بين أيدي البشر..
غير أن هناك دفترًا آخر, لا يأتيه باطل كاذب, ولا تمسه زخرفة منافق,
لا يتلوه بشر وإن صدقوا, ولا يبدي ما فيه بشر وإن تنزهوا..
ذلك الكتاب الذي «لا ريب فيه»,
الذي يستلمه أصحاب اليمين باليمين,
الثلل الناجية التي «لربها راضية», التي مآلها «جنة عالية»,
التي تستقيم على الصراط المستقيم, لا تزل في الهاوية..
الذي يستلمه أصحاب الشمال بالشمال,
الوفرة الخاسرة التي ليست لربها راضية..
ذلك هو الكتاب, أول الكتب وآخرها..
أصدق الصفحات, أجلى الصدق, أدق الحفظ,
ليس فيه إلا ما فعل المرء في يقظته, ونومه, في تعامله, وتبادله, في خلوته, واجتماعه,
في حديث نفسه, وعمل جوارحه, ونوايا قوله, وآخر مطافاته,
من أول لثغاته, لآخر زفراته..
هذا الكتاب الأم, ليس بيد منافق أن يتلوه, ولا كاذب يدنيه, ولا صادق يدريه,..
هذا الكتاب, عصي على المتاح للإنسان, في الأرض بمن فوقها, وتحت ثراها,
مذ شهقة الميلاد, وما بعد زفرة الفناء,
عصي على البشر, بين يدي الله تعالى,
عصي على الإنسان أن يمسه, بلمسة, أو يفضه بقراءة..
إلا هناك فقط في اللحظة الخاتمة, لحظة المصير
لحظة أن يجليِّ زمنُ المرء له عنه بكل دقيقه وجُلَّه, قليله وكثيره, أبيضه وأسوده, عكره وصفوه, سمينه وعجفه,
في كل تفاصيل وقته!!..