استيقظت قبل أن يستيقظ الفجر الذي فقد جماله فأصوات العصافير خُنقت تحت وابل الرصاص وأصوات المدافع التي مزقت أرواحنا أشلاء تلتقطها عدسات القنوات الفضائية فيبكي العالم المحروم حالنا إلا أن دعواتهم لم تمطر بعد بالأفراح. شاهدت مقبرة يوجد بها ثلاثمائة شهيد ماتوا دون أن تمزق أجسامهم رصاصة غدر !
حَضنتهُم تِلك المقابر بعد معاناة قصيرة مع المرض الذي هزمهم بجناح بعوضة سممت ما كانوا يقتاتون عليه من فتات الخبز الجاف.
كُنت أترقب حضورها عند الغدير الذي أطلقت عليه اسما يليق به.
قَدمت تتهادى بخطوات أخذت ما في قلبي من عطر شوق إلى أن وصلت أمسكت بيدها التي كانت ترتجف من أن يرانا أحد قلت لها ما بك ؟غداً يذهب أهلي لخطبتك ردت ( أشتي) أحلم بقربك جنبي قلت لها أنا بجواركِ إلى الأبد موقنا بداخلي أن تلك هي حال كل من اشتهر بقصص الحب العذري.
وقفت قلت لها بشوق (علامك) ردت بحنانها الذي عودتني لقد تأخرت على البيت و أنت تخبر الحين موعد رجوع أبي من عملهُ في المزرعة ودعتها و قلبي يئن على رحيلها الذي فرضهُ القدر القاسي على قلبي الذي أنفطر وأنا أجمع الماء في قناني كبيرة ليشرب أهل القرية ماء نظيفاً من الوباء !
غدير الصبايا الجميع يأتي إليهِ بحثاً عن الشفاء من ويلات الحروب التي أبادت الحب في القلوب التي لم تعد قادرة إلا على ضخ الدماء الساخنة من أجل ممارسة الحياة ..
حَضر مجموعة من الرجال المدججين بكاميرات التصوير التي تشبه حاملات القذائف شربنا من النبع ثم انصرفوا إلى القرية تحت وقع المطر يصورون الشوارع المتكدسة بالنفايات وكيف أن الجوع يجرف الأطفال والشيوخ و النساء لنبش تلك النفايات من أجل لقمة تقيم صلبهم!
بثت قنوات الأخبار نبأ ينم عن أن هناك حالات مرضية مشتبه فيها أنها حالات كوليرا بلغ عددها ألفا وثمانمائة و ثمانين .. لم أتوقف عن أكل تلك التفاحة المتسخة لأني لم أجد أمامي سواها أكلتها قبل أن يأكلني الجوع لأسقط بعد ذلك في بئر عميق من شدة الألم و كثرة القيء.
حملني أولاد الجيران و توجهُ إلى مستشفى السبعين الذي كان مزدحما بالأعداد الكبيرة من المرضى .
وجدتها هناك مستلقية على السرير عرفتها رغم أنف الغطاء الأسود الذي كانت تضعهُ على وجها .دنوت منها ناديت عليها
غدير
ردت:
أبتعد ما الذي جاء بك هنا ؟
قلت لها:
الشوق
ضحكت ..
أنسيت أنني الآن متزوجة وزوجي قد يكون في الخارج أذهب قبل أن يأتي ويقتلك من الوريد إلى الوريد .
الموت ــ الموت أتعلمين يا حبة القبب أن الموت زارني اليوم عندما أكلت تفاحة فاسدة أفسدت جميع ما في صندوق التفاح ألا أن صاحب الصندوق كان ذكيا تخلص منها برميها وأنا رميتها في بطني أسعدني أن رأيتك.
ضحكت قائلة :
هل هناك أحد يفرح بالموت و المرض.. إن أمرك غريب !
سقطتُ على الأرض أسرع نحوي مجموعة من الممرضين وضعوا لي المحلول المتوفر على أمل أن يصل الدعم بعد أن أصبح ضحايا ذلك المرض سبعمائة و واحد وتسعين يرقدون بأمان في مقابرهم!
الغريب رفض أهلك زواجي منك و تزويجك رجل أكبر منك في السن و تعللهم بأنني لست من مقامهم كنت دائماً أقول أن عشبة القات التي يلوكها الصغير والكبير في فمه حتى في ساحة القتال سوف تؤدي بقتل العشرات و العشرات و إن كان ذلك الموت سيأتي بعد سنوات إلا أن قصيدة الكوليرا التي كتبتها الشاعرة العربية نازك الملائكة دقت ناقوس الخطر بتنبؤها بالموت السريع الذي يحصد الأرواح مثل لمح البرق !
عشرةُ أموات,عشرونا
لا تحصِ أصخ للباكينا
اسمع صوت الطفل المسكين
موتى, موتى ضاعَ العددُ
ربما أنني كنت أهون مصيبتي بتلك المقارنات التي تفوقت علي فيها حروف تلك القصيدة التي اعتصرت قلبي بعدما قرأتها ..
سمعت أن غدير ماتت وأن ذلك الشيخ الكبير الذي أمتص رحيقها يبحث لهُ عن عروس فما أغرب الأقدار التي تأتي بالتنائي فتموت الورد و العصافير و تبقي على الأشجار المعمرة ليزداد عمرها بحثاً عن الشفاء بدماء الفقراء و المستضعفين .
زرت قبرها للمرة الأخيرة كنت أحمل لها ماءً نظيفا أحضرته من غدير الصبايا أسقيتها حتى شعرت أنها ارتوت عُدت أدراجي إلى تلك المصحة الطافحة بالمرضى الذين كانوا هُناك من يرقد في سيارته لتلقي العلاج
أثرت حياة الأطفال عن حياتي طويت جسمي تحت ظل شجرة منعزلة لن تكون بالنسبة لي مئة عام بل أقل من بضع ساعات متواصلة من الوجع إلى أن فاضت روحي التي حَلمتُ أنها صافحت روح الحبيب بالحلم !
- مسعدة اليامي