د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
مهنة التعليم من أشرف المهن، وأمسها حاجةً إلى الأمانة والإخلاص والتفاني، والحرص والجدية التي لا تتعارض مع اللطف والأدب، مع البعد عن التساهل والمجاملات؛ لأنَّ آثار التعامل مع هذه المهنة يؤثر في المستقبل، ويتصل بالأجيال القادمة، ويحدد في مجمله مصير التطور وحجم النمو الذي ينتظر بلادنا المباركة، فطلابنا وطالباتنا اليوم هم مَن سيقودون البلاد غدا، وهم مَن سيدفع عجلة التنمية، بقدر ما معهم من ثقافات وخبرات ومعارف يتزودون بها اليوم.
ومع كل هذه الأهمية إلا أنَّ الناظر لواقع تعليمنا المؤسف سيُصاب بالإحباط، ويشعر بالأسى، بل سيقشعر بدنه من رداءة الحال الذي بلغه التعليم في بلادنا، رداءة لم تحصل في ليلة وضحاها، بل جاءت متدرجة، ونتيجة عوامل كثيرة ومتعددة، تنوعت بين إدارية واقتصادية وثقافية، أدَّت في مجموعها، وعلى مر الزمن، وعاما بعد عام، إلى هذا الواقع المتردي، وإن شئت فانظر إلى المناهج الدراسية، وإلى معظم مخرجات المؤسسات التعليمية، الذين سيصبح كثير منهم معلمين يدرسون الأجيال القادمة، بما يحملونه من ثقافة ضحلة، وتعليم هش، ومعرفة ضعيفة.
وقد تعوَّد بعضهم على هذا الضعف، حتى انخفضتْ معايير الجودة لديه شيئا فشيئا، فصار عنده المتوسط بارعا ذكيا، والضعيف متوسطا لا بأس به، وتحولت المقررات إلى مجرد وريقات تُحفظ في ساعة، وأضحى الرسوب فيها أمراً غريبا ومستنكرا، والمحزن أنَّ هذا التساهل امتدَّ في الآونة الأخيرة ليقتحم الجامعات، بل إلى الدراسات العليا فيها، فصارتْ الدرجات العالية تُوزَّع هنا وهناك، وأصبحتْ الامتيازات ومراتب الشرف ثابتةً مؤكدةً قبل المناقشات، ولا تسأل بعد كل هذا عن ضعف المخرجات، وهشاشة الخبرات، ورداءة الإنتاج.
وحين يحاول أحدٌ أن يصرخ في هذا الوادي القاحل، ويسعى إلى تصحيح بعض الأوضاع، ويروم إعادة شيء من الهيبة، من خلال عملٍ جادٍ دقيق، وشدةٍ طبيعية وحزمٍ مطلوب، نابعين من حرصٍ أكيد على إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وخوفٍ على مستقبل الأجيال القادمة، ومحاولةٍ لتقويتهم علميا ومعرفيا، وتهيئتهم لبيئة العمل والإبداع فيه... أقول: حين يحاول أحدهم أن يفعل هذا انبرى إليه الراضون بهذا الواقع التعليمي المؤسف، ليعطوه محاضراتٍ في اللطف والرحمة والشفقة، وينصحوه بأهمية التعامل بأبوية، ويذكروه بالحكمة واللين والرأفة، ورغبةً في التأثير عليه يستشهدون له بقوله تعالى: (كذلك كنتم من قبل)، ليذكروه بحاله حين كان طالبا، وكيف كان ينشد الرحمة والشفقة، ويتمنى التساهل واللطف، ويبحث عن اللين والرأفة!!
ومع بالغ الأسف، يجد هذا الطرح قبولاً لدى المجتمع الذي صار يتقبَّل الضعف ويرضى به، وينظر إلى القضية نظرةً مادية، كل همها أن يتجاوز الطالب هذه المرحلة، وينجح في تلك المادة، وينال الدرجة العلمية العالية، لتبدأ بعد ذلك الأفراح والاحتفالات، مع أنهم يعرفون في بواطنهم أنَّ البضاعة التي مع صاحبهم بضاعةٌ مزجاة، ضعيفةٌ بائسة، لم تُمنح له إلا بمجاملاتٍ مخزية، ومعرفةٍ ضعيفة، لا تؤهله للمستقبل، ولا تساعده على اقتحام سوق العمل، ولا تعينه في خدمة دينه ووطنه بالصورة المأمولة.
وحين نقترب قليلاً إلى استشهاد أولئك الناصحين، الذين يذكرون الجاد الحريص بحاله السابق، يغفلون عن أمور كثيرة، لا يستقيم معها استشهادهم الخاطئ ولا نصيحتهم البائسة، إذ مَن أخبرهم أنَّ ذلك المتعلم المتفاني كان ضعيفاً كحال طالبهم اليوم؟ ومن أسرَّ لهم بأنَّ الأستاذ الجاد الحريص كان ذات يوم كسولاً ذا معرفةٍ هشةٍ وثقافةٍ متهافتة؟ ثم مَن ادَّعى لهم أنَّ هذا المعلم كان يرجو الشفقة والرحمة كما يرجوها طالب اليوم؟ وحتى لو افترضنا أنَّ ذلك صحيح.. فهل نعالج الضعف بالضعف؟ وهل نداري الرداءة بالمجاملة؟ وهل يصح أن نتوارى خلف هذا الواقع الطلابي المؤسف في أغلبه من خلال تذكر أحوالنا الضعيفة سابقا ومن ثم تقبُّل ذلك والرضا به؟
إننا لن نحصد من مثل هذه الرؤية إلا مزيداً من الضعف في الإنتاج، والرداءة في المخرجات، كل ذلك بداعي الشفقة والرحمة والتعامل الأبوي! وكأنَّ المعلم الجاد الحريص تنقصه هذه الصفات، بل إني أرى أنَّ هذا النوع من المعلمين هم مَن يستشعر حقا هذه الصفات الجميلة؛ لأنهم بحزمهم وحرصهم وجديتهم ودقتهم وإعطاء كل ذي حق حقه وبعدهم عن المجاملات يحاولون أن يهيئوا أبناءهم الطلاب للمستقبل، ويسعون إلى جعلهم منتجين مبدعين، لا تنقصهم المهارات اللازمة لمواجهة سوق العمل، من خلال عين أبوية حانية مشفقة على حالهم المستقبلي، وعين أخرى مخلصة متفانية في خدمة هذا الوطن الحبيب، الذي يستحق أفضل القوى البشرية لتنميته وتطوير فكره وبناء حضارته.