سهام القحطاني
كل شيء «يبدأ فكرة» أو «مجموعة أفكار»، تصنع بعد ذلك كل الأنظمة والأيديولوجيات والصراعات، وهو أمر يجعلنا أمام «الثقافة أولاً».
تتشكل علاقة الثقافة بالسياسة من خلال ثلاثة مستويات: مستوى قبلي، وهذا المستوى تتأسس الأنظمة السياسية في ضوئه، كالأنظمة الشيوعية والعلمانية.
فالنظام السياسي للمحافظين الجدد في أمريكا مثلاً تعود جذوره إلى حركة فكرية كما يقول «فرانسيس فوكوياما» في كتابه «أمريكا على مفترق الطرق» إلى عام 1930 على يد المفكرين اليهود الذين درسوا في كلية المدينة في نيويورك، وهي جذور - كما يقول - متجذرة بعمق في التقاليد الأميركية. واستطاعت تلك الجذور أن تؤسس مبادئ سياسة حزب المحافظين الجدد، الذي انحدر من تشكلاتها كل رؤساء أمريكا الذين فتحوا أبواب الجحيم على العالم.
والمستوى الثاني من علاقة السياسة بالثقافة هي علاقة بعدية. وهذه العلاقة لها وظيفتان: صناعة ثقافة -تعليم، أدب فن - للنظام السياسي الحاصل من حركة فكرية، أو تأسيس صناعة ثقافة للأنظمة التي لا تملك تاريخًا فكريًّا أو جذورًا فكرية مثل الأنظمة العسكرية.
باعتبار أن أي نظام سياسي هو أولاً «مجموع أفكار تُشكّل ثقافة»؛ وبذلك لا بد أن يصبح لكل نظام سياسي أذرعًا ثقافية داعمة له، ومروجة لمبادئه ومبررات توجهاته وإجراءاته، ومساهمة في استدامته..
أما المستوى الثالث فهي الثقافة المعارضة لسلطة النظام السياسي التي تسعى إلى كشف المستور من الوجه الخفي لأي نظام سياسي، أو نقد إجراءاته.
وهذا التوصيف أنتج فيما بعد «طبقة المثقفين المعارضين». وهذه الطبقة بدورها لها مراتب، أعلاها غالبًا منبوذ خارج وطنه هروبًا من الملاحقات السياسية التي تسعى إلى قطع لسانه وكسر قلمه.
إن الثقافة بوسائطها المتعددة هي التي تصنع «نموذجية أي نظام سياسي»، تلك النموذجية التي تضمن له جمعية الظهير الشعبي، كما تُضفي صفة القدسية على الحاكم.
ووجود ثقافة معارضة يعني تشويهًا لتلك النموذجية، التشويه الذي بدوره سيشكك في قدسية الحاكم وعصمته أمام الجماهير.
وحتى تضمن الأنظمة السياسية استدامة قدسيتها وعصمتها قيّدت حرية الفكر والثقافة بالرقابة والمساءلة والتجريم لكل فكر يُشكك في قدسيتها أو نزاهتها، أو يُطالب بتجديدها وتداولها.
مع أن التاريخ العربي على طوله وعرضه أثبت أن الثقافة لا تصنع ثورة سياسية؛ بسبب العلاقة الوجدانية الأبوية التي تربط دائمًا المحكوم بالحاكم في التراث والواقعية العربية.
أي أن «فكرة المعارضة الثقافية» للسلطة السياسية في المجتمعات العربية فكرة طارئة، وليست أصلية كما في المجتمعات الغربية؛ لأمور عدة، أهمها طبيعة التربية التي نشأ في ظلها المثقف العربي، والتي تُرسخ داخله التبعية وليست الحرية والاستقلالية عن الآخر. وطبيعة النشأة تلك حوّلت المعارضة السياسية عند المثقف العربي إلى بُعد نفعي؛ فالمثقف العربي المعارض يتحرك في ضوء منافعه الخاصة التي قد تُموّل من أنظمة خارجية أو جهات ذات فائدة مخصوصة، وهنا تظهر لنا ما يمكن تسميته بـ»المعارضة الثقافية غير الشريفة» التي يسعى أصحابها إلى إثارة الفوضى والفتنة السياسية لمصلحة أجندات سياسية. وليس كل معارضة ثقافية معارضة غير شريفة أو تتحرك بالمال السياسي المفوتر.
كما أن غياب الديمقراطية الحقيقية في المجتمعات العربية جعل المعارضة بشكل عام، سواء الثقافية أو السياسية، لا تحظى بأي جماهيرية على أرض الواقع. نخبوية المعارضة، وهي نخبوية جعلت تلك المعارضة في خانة المجهول بالنسبة للجماهير؛ فأي معارضة تستمد قوتها من الجماهير، ومتى ما فقدت المعارضة جماهيريتها أصبحت حبرًا على ورق.
إضافة إلى ـ وهو الأهم ـ ميل الجماهير العربية إلى الاستقرار السياسي والفكري والثقافي، وخوفهم من التغيير. وهذه الخاصية تستثمرها الأنظمة السياسية العربية لاضطهاد أي معارضة ثقافية تهدد قدسية سلطتهم السياسية.
إن استراتيجية ربط السياسة بالثقافة هي استراتيجية قديمة، أوضح صورها كان من خلال الاستشراق الذي سبق استعمار أوروبا لدول الشرق الأوسط؛ فأنت قبل أن تهدم نظامًا سياسيًّا عليك أن تهدم نظامه الثقافي أولاً. وهنا تكمن أهمية الثقافة وقيمتها للسياسة أنها تظل جدار حماية لها من أي تقلبات أو تهديدات.
في عام 1993 كتب «شيمون بيريز» في كتابه «الشرق الأوسط الجديد» أن المسار السياسي بين العرب والإسرائيليين، الذي يجب أن ينتهي إلى السلام والتطبيع، لن يتحقق إلا من خلال «ثورة المفاهيم»؛ أي تعديل الثقافة الذهنية العربية نحو إسرائيل، وإخراجها من خانة العدو إلى خانة الجار، وربط مصيرها بمصير العرب. وهو بذلك يدعم فكرة «الثقافة» قبل «السياسة».
ونجد الفكرة ذاتها «ثورة المفاهيم»، وتم تداولها عام 2002م تحت اسم «حرب الأفكار» التي ناقشها «دونالد رامسفيلدا» لمكافحة الإرهاب في الشرق الأوسط، بل دعا إلى إنشاء جهاز متخصص، يتولى التخطيط لهذه الحرب. وفي عام 2003م كررت السيدة كونداليزا رايس فكرة رامسفيلدا نفسها للترويج للقيم الأميركية في الشرق الأوسط.
«فحرب الأفكار» هي إعادة صياغة مبادئ الذهنية الثقافية لشعوب الشرق الأوسط؛ لأن تلك الصياغة هي التي تضمن ظهور جيل سياسي جديد، وتسهيل إعادة تكتلات الأنظمة السياسية بما يتوافق مع مصالح النظام العالمي.
صحيح أن استراتيجية «حرب الأفكار» أكثر تكلفة؛ لأنها تحتاج إلى مراكز بحث ودراسة، وتنوع في وسائط التأثير الثقافي، كما أن تحصيل نتائجها على المدى البعيد، لكنه أكثر ثباتًا في التأثر والتأثير، كما أنها لن تتعرض للمقاومة والرفض؛ لأن تلك الحرب ستقدم عبر وسائط ترفيهية جاذبة، تتوافق مع سيكولوجية المتلقي، أي أن الأمر أشبه بالسم في العسل.
إن سياسة «الحرب على الإرهاب» التي غيّرت قواعد لعبة النظام العالمي والخارطة السياسية للشرق الأوسط مطلع الألفية الثالثة، وأنشأت ما سمي «الحرب على الإرهاب سواء الواقعية أو الاستباقية»، التي قادها جورج بوش الابن، وأسقطت العراق؛ ليصبح بركة دماء وساحة خلفية للإرهاب والتطرف كما هو اليوم.. هذه السياسة التي ما زال الشرق الأوسط يتجرع مرارتها ما هي في أصلها سوى «فكرة ثقافية»، ابتدعها المستشرق برنارد لويس عام 1990م، ثم تبلورت على يد صموئيل هنتجتون من خلال كتابه «صدام الحضارات: إعادة بناء النظام العالمي»، الذي يذهب فيه إلى أن الثقافات هي التي ستصنع صراع المستقبل وليس السياسات.
وبعد الكثير من الدراسات والأبحاث التي تمت بعد أحداث الحادي عشر من أيلول توصل مفكرو أمريكا والغرب إلى أن إنقاذ الشرق الأوسط من الإرهاب وحماية مصالح الغرب وأمريكا في المنطقة لن يتم إلا من خلال تغيير طبيعة الأنظمة السياسية، وهذا التغيير يحتاج إلى «ثورة مفاهيم» أو»حرب أفكار»، تُشن على الشرق الأوسط من خلال مصدرين: الثقافة عبر «تغيير مناهج التعليم»، وإعادة صياغة «مفهوم الآخر». والمصدر الثاني هي «الديمقراطية»، حتى تمهد لثقافة سياسية جديدة، تنقل دول المنطقة من النظم الاستبدادية إلى نظم سياسية قائمة على الديمقراطية على الطريقة الأميركية.
وبذلك تظل الثقافة أولاً قبل السياسة في زمن التغيير، والسياسة أولاً قبل الثقافة في زمن الاستبداد.