د. إبراهيم بن محمد الشتوي
مرة أخرى، لا يبدو أن سبب العناية بالحمقى التفسير السياسي لمفهوم «الأحمق»، أو اعتباره مرادفًا للمجنون، بيد أن ما سماهم «النيسابوري» بعقلاء المجانين، يدفع إلى البحث عن الفرق بينهم، وبين «مجانين العقلاء». ومع أنني أميل إلى أن تسميه كتاب «النيسابوري» بالانطلاق من المادة التي فيه ليست دقيقة، وأن الصواب هو الأخير، فإنني أرى أن عنوانه يستحق التأمل بوصفه وسيلة لفهم سبب إيراد أخبار فئة من الناس لا تمت إلى العقل، والعقلاء بسبب.
ما يجعله يعيد صياغة المقولة المشهورة «خذ الحكمة من أفواه المجانين»، فالحكمة تصدر من أفواه المجانين، ولأنهم لا يعون ما يقولون، ولا يدركون حقيقته، ولأنهم لا يقصدونه، ولا يحاسبون عليه، فإن أقوالهم الخالية من القيمة والمعنى، بناءً على أن المعنى يصنعه العقلاء، تصبح وسيلة لاستنباط المعنى، وصناعته بيد القارئ، الذي ينفخ فيه الروح مما يدور في ذهنه من معان، وظنون، ويجعل مسؤولية المعنى على القارئ كاملة.
وهنا نصل إلى ما يشبه مقولة «بارت» المشهورة عن «موت المؤلف» الذي يفصل بها صلة النص بقائله، ويجعله أرضًا خصبًا لمن يريد أن يضع محراثه، ويزرع بذور أفكاره، كما يتساوى مع «الأدب الشعبي» في مفهومه القائم على جهالة مؤلفه، وعده من تأليف الشعب الرواة والسامعين على السواء.
فالمقولة السالفة تعطي كلام الحمقى، والمجانين شرعية الوجود، وإمكانية الاستعمال والاستفادة مما فيه من معان ودلالات، يستطيع أن يجدها السامع، ولا تمانع في أن يكون مادة للتفسير، والاستنباط، فهي تقوم بغرض مقولة «بارت» عينها حين تفصل الصلة بين النص وقائله. ولكنها تتضمن في الوقت نفسه إعفاء المتحدث (المجنون والأحمق) من مسئولية كلامه، وتبعته، بقدر ما تكون المسئولية على ناقله الذي شحنه بهذه الدلالة، أو حمله الرسالة التي خطرت في باله، لأن كلام الأحمق غفل لم يشكل على وجه، وهنا نصل إلى البعد السياسي في هذه المقولات حيث إن من يوردها أو ينقلها، ويزعم أنها تدل على هذا أو ذاك هو في الحقيقة يريد أن يقول هذه المقولات، ولكنه لا يتمكن من قولها مباشرة، نظراً لخطورتها، فيستعمل مقولات هذه الفئة من الناس ليمرر ما يدور في خلده، وهو في الوقت نفسه يعطي نفسه إمكانية التملص مما تعنيه هذه المقولات من حقائق، ومتطلبات بناء على أن قائلها مجنون أو أحمق لا يؤبه به، مع ما يستلزمه هذا من إبطال دلالتها، وصحة معناها بوصفه فاقد الأهلية، وهو ما يجعل الموجه له بمأمن من أن يؤخذ بها، أو يحاسب عليها باعتبارها أقوالًا صحيحة تعبر عن رأي أناس مؤهلين للحكم فيه.
وقد جاء مثل هذا الموقف في حكاية منسوبة إلى صبَّاح الموسوس حين رأى موسى بن أبي الروقاء (يظهر أنه من الشرفاء)، صاح قائلا: يا ابن أبي الروقاء، أسمنت برذونك، وأهزلت دينك، أما والله إن أمامك لعقبة لا يجاوزها إلا المخف. فحبس موسى برذونه، وقال: من هذا؟ فقيل له: هذا صبَّاح الموسوس. فقال: ما هو بموسوس. هذا نذير. (الجاحظ، 2/231).
فهذا القول الصادر عن «الموسوس» مكتمل عناصر حمل الرسالة، إلا أن معرفة المتلقين بحاله، وما يصدر عنه جعلهم يصرفون دلالته المباشرة التي يعرفونها، إلى عدم الصحة بسبب جنونه الذي لا يمنعهم في وقت آخر من الاستفادة مما يقول، وأخذ كلامه مأخذ الجد.
هذه المفارقة بين الحالين هي التي جعلت ابن أبي الروقاء، يرفض هذا الصرف، والنعت الذي أطلقوه عليه، نظراً لأهمية ما يقول، فهو قول لا يصدر عن «موسوس»، وإنما عمن كمل عقله، الأمر الذي جعله ينفي الحكم الذي أصدروه عليه.
وبغض النظر عن السبب الذي دفع ابن أبي الروقاء إلى رفض موقف السامعين من «الموسوس» وحديثه، بناء على ما فيه من دلالة، وما يحمله من موقف، فإن الموقف العام من حديث الحمقى هي التواطؤ بين الناقل، والسامع على تفريغه من دلالته في حين، والاستفادة من محمولاته حيناً آخر، ما يجعله فضاء يمكن أن يعبر به عما لا يعبر عنه في المواضعات الاجتماعية، أو في عرف الناس العادي، يسمح فيه بتداول المحرمات والخروج على «السائد والنمطي»، وكأنه حيلة اجتماعية يحاول المجتمع بمستوياته المختلفة أن يكسر من خلالها الحدود، ويتجاوز القيود، دون أن يكون لها أثر الطرائق التقليدية أو تبعاتها.
هذه الحيلة الاجتماعية نقلها بعض الروائيين، والكتاب المعاصرين إلى الرواية، فجعلوها طريقة سردية للتعبير عن بعض الآراء، أو لنقل الحدث من زاوية إلى أخرى، وربما كانت تمثل نصوصًا موازية لحركة النص الأصلي توحي برسالة دلالية مستقلة عن الدلالة المركزية.