د.عبدالله الغذامي
حين ظهرت الرومانسية في الشعر والرواية كانت تعتمد فكرة ( الشقاء ) كأساس جوهري في الإبداع ، واحتفلت بالشقاء الإنساني ، وجعلته قيمة شفافة تدل على زكاء الروح وحيويتها ، وكان ذلك مسعى للتخلص من عنجهية النظرية الكلاسيكية التي لم تك تضع المشاعر الذاتية في الاعتبار ، وتعتبر الحس الوجداني نقصا في كمال الفحولة ،وانتشرت الفكرة الرومانسية في كل الأدبيات الأوروبية منذ أعمال جوته وشعريات كولردج وشيلي ، إلى أن جاء زمن الحداثة وأحل شعريات الأسئلة والقلق المعرفي محل القلق الوجداني ، ولكن مع تطور التكنولوجيا حدث تزاوج لكيع بين المخترع التكنولوجي والنظرية الرأسمالية ، وأنتج هذا شقاءه الخاص ، بحيث ارتبط الإنسان الفرد مع شيئين يحكمان كل حياته ، العقلي منها والوجداني ، وهما رأس ماله الخاص ورأسماله مع شاشة الكمبيوتر ، بكل صيغها ، وأحدث هذا لهاثا محموما ، لا يسيطر على ساعات عمل الإنسان فحسب ، بل يشمل حتى ساعات نومه وساعات إجازته ، ولحظات معاشه كله ، وفي تقرير نشرته قناة ال BBC ( 5 / مارس / 2016 ) كشف أن رقما يصل لملايين الأيام تضيع على سوق العمل في لندن ، بسبب كثرة الإجازات المرضية التي يطلبها الموظفون العاملون في سوق المال ، نتيجة لحالات التوتر عندهم ، وهو توتر ينتج عن أمرين أشد قسوة هما الملاحقة المتصلة للمستجدات بحيث يصبح المرء في لهاث متصل ويلاحق أنفاسه لكي يظل متصلا مع التغيرات السريعة والحارقة ، والآخر هو اتصال الخوف من أن يفقد وظيفته بسبب غياب الأمان الوظيفي بأن تسرحه شركته أو تجد من هو أسرع منه عملا أو أكفأ إنتاجية ، وانعكس هذا على الصحة النفسية للأفراد ، ومن ثم يقعون في حال تأزم نفسي وجسدي يطلبون بسببه إجازات مرضية يستردون فيها بعض أنفاسهم ليعاودوا الوجع مرة أخرى ، ويتبع هذا كما يقول التقرير أن الرواتب في سوق المال في لندن ليست عالية ، كما يتوهم الناس من خارج السوق ، مقارنة مع متطلبات العمل ووحشيته ، وهذا هو الشقاء الرأسمالي الذي تقترفه البشرية ضد نفسها في تمثل لمقولة آدم سميث عن ( اليد الخفية ) حسب فكرته وتسميته للسوق الحرة ، التي كانت وعدا اقتصاديا وتحولت إلى كابوس إنساني.