فيديريكو غارثيا لوركا، الأسباني الذي عرفه الناس كشاعر ينتهج طريقة مغايرة لما كان يُكتب فيها بعصره آن ذاك، حيث اشتهر بكونه مصمم البراعة، لأنه كان يتجه إلى الكتابة الشعرية النثرية المتجددة. وبالرغم من تحقيقه نجاحات وشعبية شاسعة في أرجاء أسبانيا وفي الدول الناطقة بالأسبانية إلا أن لوركا لم يتوقف إبداعه عند الشعر فحسب ليعبر عن مكنوناته وما يسبح في بحر خياله، فدخل المسرح كاتبًا، ولعل أبرز ما ساعده في ذلك هو عدم تمكنه من مشاركة اللعب مع أقرانه الصغار في طفولته، وذلك يعود لعدم تمكنه من المشي حتى سن الرابعة من عمره بسبب مرض ألم به عقب ولادته، كما كان يعاني أيضًا من مشكلات في النطق، فـ التأمل والجلوس وحيدًا بينما الآخرون مشغولون ببعضهم، نما لديه القوى التخيلية، هذا خلافًا عن الأحاسيس المرهفة التي يتسم بها ذوو الإعاقة. لذا كان لوركا من أوائل الذين ساهموا في افتتاح العصر الذهبي للمسرح الأسباني، ولعل أبرز ما كتبه من الأعمال المسرحية مسرحيتيه ”عرس الدم” و «بيت برنادرا ألبا” كما تعد قصيدة “شاعر في نيويورك” من أبرز وأشهر أعماله الشعرية على الإطلاق، حيث كتبها حينما سنحت له فرصة الارتحال إلى نيويورك عام 1929م، فصُدم حينها بإحباط وخيبة أمل حينما رأى ما يعيشه الأمريكيون من أسلوب حياة وحضارة مُغايرة تمامًا لما اعتاد عليه في بلده الأم أسبانيا، فما لبث حتى عاد ونشر قصيدته والتي تقع ضمن مجموعة شعرية.
أشار الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش في إحدى مقالاته الأسبوعية التي كان يكتبها في مجلة “اليوم السابع” بمقال حول لوركا بعنوان “خمسون عامًا بلا لوركا” وفيه ينعى لوركا ويستعيد أبرز ماكتبه بمناسبة الذكرى الخمسين لرحيله حينها. فقال” كان لوركا ينشد، كان لوركا يقول أن الشعر يحتاج إلى ناقل، يحتاج إلى كائن حي، سواء كان هذا الناقل مغنيًا أم منشدًا، كان لوركا يمتحن حاسة الذوق، ويمتحن القصيدة ذاتها بالإلقاء، كان يبحث عن العلاقة المباشرة بين الصوت والقلب، فالشعر ليس فنيًا بصريًا.. لابد له من إذن.. لابد من جرس! ساعة واحدة، ساعة واحدة فقط كانت كافية لأن تنقلنا مما نحن فيه، من زماننا ومكاننا إلى مالا ندري.. بشفافية الشعر، وفضة الصوت، وأمهات البرتقال الإسباني.” واختتم درويش مقالته بجملة “ خمسون عامًا بلا فيدريكو غارسيا لوركا.. شعراء أكثر، وشعر أقل”.
لم يكن رحيل لوركا رحيلًا عاديًا، حيث أُعدم رميًا بالرصاص استنادًا على الأمر الذي أصدره الحاكم المدني لمدينة غرناطة أيام الانقلاب الشهير الذي قام به الجنرال فرانكو وبداية الحرب الأهلية الإسبانية، وذلك لأن قصائده بمثابة شرارات تُلهب حماس الشعب للوقوف ضد فرانكو وأنصاره، فـ عُرف بمناهضته للفاشيين ومناصرته للجمهورية خاصة حينما صرح وقال (أنا أبدًا لن أكون سياسيًا، أنا ثوري وليس هناك من شاعر حقيقي إلا وكان ثوريًا) وقد جرى إعدامه كما قيل في الطريق بين مقاطعتي فيثنار وألفاكار، على التلال القريبة من غرناطة، ولكن جسده كما تنبأ في إحدى قصائده لم عليه.
“وعرفت أنني قُتلت
وبحثوا عن جثتي في المقاهي والمدافن والكنائس
فتحوا البراميل والخزائن
سرقوا ثلاث جثث ونزعوا أسنانها الذهبية ولكنهم يجدوني قط”
وقيل أن لوركا قال أبيات شعرية قبيل تنفيذ حكم الإعدام به، إذ تكشف عن علاقته بمحبوبة تُدعى “ماريانا” وكأنه بذلك ينفي اتهامه بالمثلية الجنسية وهي إحدى التهم التي ألصقت به ليتم إعدامه، وتقول هذه الأبيات:
ما الإنسان دون حرية يا ماريانا؟
قولي لي كيف أستطيع أن أحبك إذا لم أكن حُرًا؟
كيف أهبك قلبي إذا لم يكن ملكي؟
الجدير بالذكر هو أن المحكمة الوطنية في أسبانيا أصدرت قرارًا بوجوب البحث عن جثث الذين قتلوا خلال الحرب الأهلية الأسبانية، والتي أدت لسيطرة الجنرال فرانكو على الحكم، ومن أهم هؤلاء الضحايا فيدريكو غارسيا لوركا ولكنهم حتى هذه اللحظة لم يجدو جثته.
- إشراق الروقي