يقال إن السلطان محمد الفاتح ،عندما نُصب سلطانا على العثمانيين ،أُتي إليه بالأمور الهامة التي لا تقبل التأخير ،والتي تتطلب حلولا عاجلة وناجعة، نظر إليها بتمعن وقال:لو تفرغت لهذه الأمور لأفنتني قبل أن أفنيها، ثم تفرغ بعدها للفتح الكبير ومتطلباته وكان له ما أراد .
هذا المدخل أسوقه لبيان أهمية البعد عن التفاصيل في حياة الإنسان العادي، والقيادة أيا كان نوعها وزمانها ومكانها تستدعي من أصحابها عدم الإيغال في التفاصيل وجعلها كل العمل الذي يستهلك الطاقات وتضاع فيه الأوقات . بعض المديرين ،تستهلكه هذه التفصيلات وتصبح العمل الذي يقدمه لرؤسائه ولطالبي الخدمة، ويكتشف بعد زمن ليس بالطويل أن هذه التفاصيل اختزلته واختزلت موظفيه في شكليات تبدأ ولا تنتهي، ومن متلازماتها التدقيق على الحضور والانصراف وجعلهما معيارين جوهريين في الحكم والتقييم . وعلى المستوى الإبداعي إغراق النفس بالتفاصيل مؤذ ويحد من الإبداع ويؤذي المبدع ،فتجد الكثير من المهتمين بالشأن الثقافي يغرقون في تفاصيل شكلية،كشهوة الحضور في المشهد ،ونوعية هذا الحضور ،وشكله وتوقيته ومكانه وهنا يسقط الكاتب أو المبدع في فخ التكرار وهو المنتج الأول لسياسة التفاصيل أسلوبا وخطة وخارطة طريق. حتى في تويتر هناك من التفصيليين من نذر حياته لتتبع الأخطاء الإملائية والنحوية ،يبحث عن همزة وصل تاهت في زحام البحث عن الحروف في الشاشة، وربما سقطت سهوا ،وهنا ينتصر التفصيلي لنفسه ولتفاصيله وشكلياته وتشكلاته، وتبعا لذلك تصادر الفكرة وصاحبها. التفصيلي مولع بدقائق الأمور وغرائبها ،حكمه على الناس فرع عن تصوراته الدقيقة، حساس لدرجة تجعله يعيش الشك والريبة في ذاته والآخرين . ويبقى السؤال مطروحا ،هل خلد التاريخ تفصيليا واحدا حُسب على الإبداع وأهله؟ بحثت في ذاكرتي المحدودة،وما استطعت تناوله بحثا وقراءة فلم أجد لهذا الصنف من الناس ذلك الحضور، وإن حضر فيكون من خلال مبدع أثرى الساحة بنتاج أفكاره ،وخلال مسيرته الإنتاجية المديدة استوقفه أو عطله ذلك التفصيلي ليمطره بوابل من نيران أدوائه وشكلياته ،تارة في صورة ناصح، وأخرى مشكك، أو أن يظهر في صورة الناقد الذي يستطيع الهدم ولكنه يعجز عن البناء ،والصنف الأخير هذا، يكون مولعا بالتفاصيل مغرما ببحثها واستحداثها كونها بضاعته التي منها يأكل ويبتاع ويشتري.
النقاد في سوادهم الأعظم تفصيليون ،يجيدون البحث والتقصي ولكنهم يعجزون عن القيادة، هم كقاص الأثر يتتبع الخطى ولا يصنع طريقا يقتفيه الآخرون .
التفصيلي ليس فعلا مثمرا، هو إلى ردة الفعل أقرب ،ليس راسم طريق أو منهج ،هو تابع يرصد الأثر ويعيد قراءة السير، متعطش للحضور ولكنه يأتي متأخرا ،لاتسعفه إمكاناته ليكون في الصف الأول مع السابقين المقربين ،هو مجرد حالة تلاحق الإبداع ولا تصله فضلا عن أن تسبقه، شيء يكتمل به الشكل ولا يؤثر في المضمون، كصلة الموصول كلام موجود وقد يكون مقفى وموزون ،لكنه في النهاية لا محل له من الإعراب كما أُثر عن الأعراب ولغتهم الخالدة.
- علي المطوع