الترجمة فن لا يجيده إلا من أُوتي خبرة ومَلَكَة مليئة بالحذق والمهارة لذلك تجد بعض التراجم فيها من البراعة من التصرف ما تستهويك وتستدرجك للقراءة بنهم شديد وتجد أحياناً الركاكة في البعض ما تجعلك تغلق دفتي الكتاب من أول صفحة وهنا يقع ظلم شديد على المؤلف الذي قد تكون روايته أو كتابه ذات أهمية ومستوى رفيع في لغته الأم ! وعلى أية حال قال البعض إن الترجمة تفقد من قيمة الكتاب إذا كان في غير لغته ، كان عليّ أن استطرد قليلاً حيث إن كتاب فاطمة أوفقير حدائق الملك قد استهوتني قراءته للغة المترجم حسين عمر المتميزة من الفرنسية إلى العربية بتصرف جميل وإن كانت هناك أخطاء نحوية بسيطة جداً .
يقولون أصحاب السياسة ( ليس هناك صداقات دائمة ولا عداوات دائمة وإنما مصالح مشتركة !
) وفاطمة أوفقير كانت كما يقولون ولكنها لم تعي الدرس جيداً ! وقصتها التي كتبتها بالفرنسية وبأسلوب متميز وثقافة أدبية واجتماعية وسياسية رفيعة تعتبر سيرة ذاتية لسيدة تزوجت رجل أمن برتبة عالية هو الجنرال أوفقير وزير الداخلية والدفاع المغربي آنذاك وقد تقلبت حياتها منذ الصغر حتى الكبر بصورة دراماتيكية وسيناريو عجيب يستحق أن يُذكر كتاريخ حقبة مرت على مملكة المغرب من الاستعمار الفرنسي مروراً بالأربعينات حتى الاستقلال في منتصف الخمسينات الميلادية وكيف كانت علاقتهم بالملك محمد الخامس قبل وبعد أن أقصاه الفرنسيون وعلاقتهم بالبلاط الملكي ومن ثم بالملك الحسن الثاني وهنا تكمن عقدة الرواية والسيرة التراجيدية التي على أثرها أُعدم أوفقير وزج بها وبأبناءها الأبرياء في غياهب السجون ! لا شك أن السيرة الذاتية يجب أن تكون مرتوية بالحقائق فترى بوضوح ماوراء الحواجز من الشفافية لذلك أجد في ثنايا عرضها عن حركة الانقلاب تحاول أن تبرأ أوفقير ولكنها تشكك في نواياه لكونه عسكرياً غامضاً وتود أن يكون بريئاً براءة ذئب يوسف وإن كان على مضض ! ثم أمعنت كثيراً في الجرأة حيث خاضت في مغامراتها العاطفية السريّة كامرأة دون حياء أو خجل وكان عليها أن تغفل قليلاً عن ذكر تلك المغامرات بأن تختصرها أو تشير إليها في معرض حديثها دون سرد بعض الليالي الحمراء ! ولكنّ الخلاصة في هذه السيرة المنهكة والمتعبة ذلك الدرس الذي لا بد أن يتبناه كل إنسان ، ألا وهو الأمل الذي يظل المرء متمسكاً به في أحلك الظروف وأشدها صعوبة وعدم اليأس ، هو المستقبل وعدم الرجوع إلى الوراء ، والمقاومة وعدم الاستسلام ، هو التجربة وإن كانت مُرّة ، هو المحاولة والفشل ثم المحاولة حتى النجاح ! بيد أن أسوأ ما يتلقى المرء من تقلبات في حياته حين يكون في قيد شديد ورقابة أشبه بالظل بعد حرية وحركة دائبين ثم يصبح فقيراً معدماً بعد غنى ! حين يكون في حال الرفاهية وحب الناس ثم يضطر أن لا يثق بأحد وقد تبخرت كل الأحلام الوردية التي كانت ترافقه أيام الرخاء ! هكذا كانت فاطمة أوفقير في حياة النعيم حتى أُعدم زوجها وقد يكون عقاباً منصفاً ولكن ما ذنب صبية وأمرأة أن تغلق الحياة دونهم خمسة عشر عاماً وازدادوا أربعاً تحت الإقامة الجبرية دون ذنب في حدائق الملك السريّة ! وما حدائق الملك ؟! فلا يخطر في بالك حدائق بابل المعلّقة ولا الهايد بارك بأجوائها المنعشة وبورودها الزاهيةوأزهارها المفتّقة ! وإنما هي سجون منقطعة عن الحياة بعيدة عن صخب العامة والخاصة ، بعيدة عن المجتمع والاختلاط بالناس ! حياة أخرى ليس لها من الاسم إلا السخرية حيث إنها تفتقد لأسس الحياة الطبيعية فهي أشبه بسجن الباستيل ومعتقل غوانتنامو دون أن تكون هناك أذنٌ صاغية تسمع أنين المعذّبين ، آثروا الموت في كل مرة وطلبوه حثيثاً فكانت الحياة دائماً لهم بالمرصاد !
ومع ذلك لم تكره فاطمة أوفقير الملكية على عذابها بل تراها الاستقرار الأمثل للشعب والأمان الصحيح من نزق الأحزاب وشرهها للسلطة وأنها الملاذ الآمن حين يكون الخوف من الفوضى .
- زياد السبيت