كنتُ طفلةً (نطّاطة) لا أخشى شيئًا ما يراهُ الناس بعيدًا؛ أراه قريبًا، بل قريبًا جدًا وكانتْ لي عنزة شقراء اسمتها جدتي - رحمها الله- (صمعة) والصمعاء من الماشية في لهجتنا المحلية؛ مكسورة القرنين.
صمعة التي أتعبتها بدروبي الوعرة كان لفقد قرنيها حكاية بسببي أستفتح بها الذاكرة:
كانت أم جيراننا امرأة قاسية جدًا، تحبس أولادها حتى لا يخرجوا في الشارع، فلا نكاد نراهم .. كانت تخرج وتقفل الباب بسلسلة من حديد ،وكنتُ إذا رأيتها خرجت ؛أحدثهم من خلف الباب لأُروّح عنهم، وأحكي لهم تفاصيل ما يتم في العالم الخارجي بشيء من الإثارة ذات يوم شعرت بأنَّ هذه الطريقة غير مُسلّية، لاسيما أنّ لي هواية أخرى أمارسها عند الضجر, وهي تقليد القطط في السير على جدران أسطح المنازل.
سهّل المهمة أن البيوت قديمًا كان يسند بعضها بعضًا؛ فكل بيتين لا بد أن يربط بينهما جدار واحد على الأقل قفزت إلى سطحهم بوضع زبرٍ من فرش الإسفنج وكان لابد أن أبدأ معهم فعاليات مدهشة حتى لا يستخسروا الجهد الذي بذلوه في مساعدتي للقفز إلى منزلهم أحببتُ فكرة الفرش التي وضعوها لي وقررت أن أقفز من السطح إلى بطن الدار- كانت المنازل آنذاك دور أرضي وسطح فقط كومنا الفرش فوق بعضها، وبدأت أفواههم الصغيرة تتسع دون تحكم مع اتساع أعينهم المغلفة دهشة وذعرا.. أمسكت بعنزتي لنقفز معا على غرار أفلام الكرتون التي كنت أتابعها.
كان شعورا مدهشًا لكائن حي لا تحتمل ضآلته وهو يطير في الهواء ولايدري على ماذا سيهبط.
هبطت عنزتي، وفقدت قرنيها, ومن هول صدمتها؛ أخذت تركض دون وجهة, تلتقط أنفاسها لتستوعب ما جرى تمت العملية بسبب استدارتي في الهواء وارتطامي.
ضحكت وسط التصفيق على دخول والدتهم التي لم تترك دعوة لم تقذف بها في وجهي. أعقبتها بزفي إلى جدتي بشكوى بحجم جفوتها للجيران وقسوتها على أولادها رمقتني جدرتي بعين مكسورة توحي بأنني فضحتهم.
سألتني: ماذا لو متِّ في بيتهم والباب مقفل؟
- لكنني لم أمت.
- من يومها وجدتي إذا قررت أن تنام ظهرًا تأخذني معها لغرفتها وتقفل الباب بالمفتاح .. الملل قاتل في غرف كبار السن لطفلة دون سن المدرسة.
استيقظت من النوم وقد نكثت غرفتها بحثا عن دهشة حتى وجدت في درج الماكينة. كيك رول الفراولة استيقظت وهي تهمس باسمي وتضحك: كيف وجدته؟
صدق من قال: «ماتبقى صرة وفي البيت حرة»
- قررت جدتي أن تحمل مسؤوليتي لوالدي من جديد وهما بدورهما صارا يقفلان باب الشارع عند نوم الظهيرة أقفلوه وصار تفكيري يؤلمني فالقيود لا تعجبني. إنها تشعرني بالإهانة.
خرجت بمعية أخي الذي دربته على فنون كسر التابو من أجل العالم المدهش في الخارج . صعدت حتى وصلت شرفة البيت المطلة على الشارع ساعدته في النزول بربط وسطه. وعندما تأكدت من هبوطه جاء دوري أن أتحمل مسؤولية نفسي، وأقول للعالم: أنا قادمة رغم الحصار.
- وأنا أهبط علق فستاني في عامود تصريف المياه الحديدي فصار وجهي منكسًا للأرض
بقيت من الثانية ظهرًا حتى قبيل العصر إلى أن رحمني الله بجارنا الذي يخرج قبيل الأذان للمسجد فلما رآني عاتبني وطرق الباب، وأنا بكل فلسفة العالم الطفولي أحاول إقناعه بأن ما يفعله ليس في صالحي ؛لأن أهلي سيعاقبونني، وأن عليه أن يذهب ، ويترك لي تدبر الأمر.
لم يكترث ,وأكمل قرع الجرس غير آبه بتوسلاتي التي بدأت بأنفة وكبرياء، وانتهت بترجٍ كسير.. فتحت والدتي الباب وبادرها بأخذ الوعد منها ألا تمد يدها علي، فدخلت كالفارس المهزوم، كعزيز قوم ذل، كفكرة رائعة وقعت بين يدي مدير تقليدي يخشى التغيير.. ظل العتاب متنقلا دون مد يد.
* *
كانت والدتي تبكي، ووالدي يهدئ من روعها، وجدتي تلومهم؛ لأنهم أرعبوا البنت ،والبنت تفكر كيف ستخرج مرة أخرى.
* *
لم يكن من السهل عودة الثقة من جديد..
صاروا يتعاملون معي على أني قنبلة موقوتة قد تخلع قلوب محبيها . وعند أول فرصة سانحة للهرب م أفوتها كانت السابعة صباحا.
درت شوارع كثيرة ؛من شارع 15 إلى شارع20 في منفوحة حتى طريق عظيم لا أعرفه أظنه الدائري الجنوبي الآن- هناك شعرت بالخطر وعدت للحارات ولأن كل البيوت تغيث الملهوف ببرادات الماء لم أشعر بالعطش.
كل بيت لا أعرفه، وعند بابه أطفال أدخله كصديقة قديمة.
في أحد المنازل البعيدة جدا عن حينا احتوتني إحدى الأمهات؛ كانت جميلة جدا وشعرها قصير -ربما هذا سر انجذابي لها- حيث أن الشعر القصير بل وقص غرة الشعر الأمامية محرمة على بنات عائلتنا التي تباهي في الأعياد بشعور بناتها الطويلة المعتقة برائحة الحناء الممزوج بالعنبر.
صنعت لنا طعامًا شهيًا، وشاهدنا التلفاز.
لم انتبه أنها صارت السابعة ليلا؛ فاستأذنت بأنني سأذهب إلى بيتنا، وهناك ضعت وعرفت أنني في خطر.
كان النوم قد داهمني، ولا أعرف أين بيتنا فصرت أهرول في الشوارع وأبكي.
ومن شارع إلى شارع؛ حتى رأيت أحد أقاربي الذي بادرني بسؤال غاضب؛ أين كنت؟
عرفت أن أهلي رفعوا مستوى الطوارئ، وأن بكائي بدعوى الضياع له أسباب خفية تنتظرني في البيت سلمني قريبي لأخي على ناصبة حارتنا؛ الذي أخذ يتأملني بنظرة غاضبة فيها رحمة.وسألني ليبدد الغضب أنتِ خائفة ؟
نعم لا تخافي دخلت الحارة والجيران عند الباب منهم من يتحمد بالسلامة ومن يدعو لأهلي بالصبر عليّ بلهجة سلبية.
دخلت المنزل في وسط وجوم أبي، وبكاء أمي، واحتضان جدتي.
انهالت عليّ والدتي ضربًا واحتضانًا كنت لا أشعر بشيء غير أن دموعها حتى الآن توجعني لم أبكِ!
فأنا صاحبة مبدأ؛ عندما أرتكب كارثة، أفتح صدري لرياح العقاب.
منذ تلك الليلة- ولدموع أمي- وأنا أحبّ البقاء في المنزل.
- د. زكية بنت محمد العتيبي