د. عبدالحق عزوزي
اختتمت مؤخراً بمدينة فيينا عاصمة النمسا، فعاليات المؤتمر الدولي الذي نظمه مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات، والذي عرف مشاركة مجموعة من القيادات الدينية من المسلمين والمسيحيين واليهود.
ودعا المشاركون في هذا المؤتمر، الذي يأتي بعد «إعلان فيينا» سنة 2014 والذي نظم تحت شعار «تعزيز التعايش السلمي والمواطنة المشتركة»، إلى ضرورة توحيد الصف بين مختلف الديانات من أجل محاربة التطرف والإرهاب. وشدد قادة الأديان الممثلون لمختلف الأطياف والديانات على ضرورة العمل المشترك وتعزيز التماسك الاجتماعي والعيش المشترك، القائم على أسس التفاهم والحوار لبناء السلام بين أتباع الأديان والثقافات.
وساهم المؤتمر في تعزيز التعاون بين القيادات والمؤسسات الدينية وصانعي السياسات، وألح على دور الإعلام الجديد في تعزيز التعايش السلمي والمواطنة المشتركة....
وأظن أن هذا هو الاتجاه الصحيح الذي يجب أن يتبناه الجميع للتأصيل لبناء أسرة إنسانية واحدة وبيت مجتمعي مشترك... وفي هذا الاتجاه كنت قد سعيت شخصيا منذ أكثر من عقد من الزمن مع آخرين في إطار لقاءات فاس التي نظمتها حول تحالف الحضاري والتنوع الثقافي، لإيجاد ميكانزمات قانونية وجهوية ودولية تجرم ازدراء الأديان، وكانت بعض الدول ترى إلى مثل هاته التوصية على أنها تشكل خطرا على الحريات العامة وحقوق الإنسان التي تدعو إليها وهذا مخالف للحوار العالمي الذي ندعو إليه...
ولكن ما هو هذا الحوار؟ الحوار الحقيقي هو الذي يوم تتأصل شجرته في النفوس.. وتشمخ فروعه في آفاق حياة البشر.. وتأنس أرواحهم في ظلالها الوارفة، يومئذ تبدأ المجتمعات جني ثمراته، وإذاك تكون قادرة على بلورة قيم ومبادئ وأخلاقيات ووسائل وضوابط ميثاق بشري راسخ، يكون منطلقًا صلبًا، وسبيلاً آمنًا لمسيرة بشرية راشدة.
فلا نريد حوارًا لتنتصر ثقافة بعينها على ثقافة أخرى.. أو لتبسط دولة ما هيمنتها على دول أخرى.. ولا لتحقيق طموحات سياسة ما على حساب طموحات سياسات الآخرين.. نريد حوارًا ينتظم به ومعه التنوع البشري بكل أشكاله ومصالحه.. نريد حوارًا تنتظم به المفاهيم المشتركة.. وتتوحد معه الغايات المشتركة.. ويصان به المصير الإنساني المشترك.
نريد حوارًا مؤسسًا على ثوابت الاحترام المتبادل.. نريد حوارًا ترتكز منهجيته على عدم التعرض للخصوصيات الدينية.. والثقافية.. والاجتماعية.. وعدم انتهاك رموزها ومقدساتها.. نريد حوارًا تحشد به طاقات وإمكانات التنوع البشري بكل انتماءاته ومضامينه ومسمياته وطموحاته.. من أجل التعاون والعمل الصادق لإجلال وصون:
1. قدسية قيم الإيمان بالله، ووحدة الأسرة البشرية ومصالحها المشتركة.
2. قدسية حياة الإنسان وكرامته وممتلكاته.
3. قدسية العدل والسلام وسلامة البيئة.
4. قدسية عقل الإنسان وحريته وغذائه وصحته وتعليمه.
لقد غدا العالم قرية صغيرة في ظل السلطات الجديدة للعولمة وأصبح للأفكار الرائجة مغزى وأبعاد وانعكاسات مباشرة على العديد من الأمم والقارات... كما أن التكفيريين الذي تعج بهم بعض المجتمعات العربية يزرعون قواعد الكراهية وازدراء الأديان في عقول البشر ليكون الأمر إما حقا أو باطلا، والموقف إما هدى أو ضلالا، والألوان إما أبيض أو أسود، والحاكم إما ملاكا أو شيطانا، والشخص إما مسلما أو كافرا والعياذ بالله... فالإرهابيون ينطلقون من فكرة واحدة وهي أن الدين غير مطبق وينبغي الاستيلاء على الدولة لتطبيق الشريعة بواسطتها وبكل الطرق، ويجب الجهاد في ذلك بكل الوسائل في أوطاننا كما في الغرب. فهناك إذن اعوجاج في فهم الدين، وضلال مبين في فهم مقاصد الشريعة السمحة، وخلط بين السياسة والدين؛ كما أن زرع بذور وفتاوى التكفير ما هو إلا الوسيلة المثلى لصناعة المغناطيس لجذب شباب المسلمين، وهذا خطر وأيم الله على الدين وعلى الدول.
لذا فصون البشرية من خبث وبربرية التكفيريين والذين يزدرون الأديان هو تأصيل للحوار العالمي الهادف، وهذا هو المطلب العالمي الحقيقي، وهو لا يخص المسلمين لوحدهم وإنما العالم بأسره، ويجب على الدول المتشبعة بالمواطنة الحقيقية وقواعد العيش المشترك تبني قوانين ردعية تصون مصالح الجميع، وهو ما نحييه بجلاء عندما أصدرت بعض الدول العربية قوانين جدية وهادفة تمنع استغلال الدين في تكفير الأفراد أو الجماعات لما لها من تداعيات هدامة، وتفرض عقوبات كبيرة جدا تصل إلى الإعدام إذا اقترن التكفير بالتحريض على القتل فوقعت الجريمة بسبب ذلك.