حسن اليمني
منذ خروج العرب عن الأمبراطورية العثمانية وإلى حد هذا اليوم لم يظهر موقف عربي موحد للأحداث إلا في لحظة يتيمة عام 1973 ميلادية والتي ما لبثت أكثر من أيام حتى تفرعت وتعاكست.
يصف «توماس ادوارد لورنس» الإنجليزي مشاعر الكتائب العربية التي كانت تحت قيادته ضمن ثورة الشريف حسين على السلطة التركية عام 1918م وهي تسمع دكّات مدافع القائد العسكري الإنجليزي « المارشال إدموند اللنبي» تضرب فيالق الأتراك المدافعين عن القدس بقوله (لقد أخذتهم الرأفة اليوم لأولئك الأتراك الضعفاء جلّادوهم بالأمس وآثروهم الآن على الأجنبي (يقصد بريطانيا)الذي يحكّم العدل الأعمى الذي لا مرد لقضائه ولا محاشاة) وبصرف النظر عن مفردات وصفه إلا أن الحالة التي وصفها بتلك اللحظة في مذكراته وشرح أعماله في تلك الحقبة تستوقف القارئ للتأمل وفهم الكامن الحقيقي المترسب في وجدان العربي المنخرط في ثورة تاريخية ضد ما يراه احتلال أجنبي في الوقت الذي ينخرط في لعبة أخرى يصبح هو فيها أداة لاحتلال آخر.
إن قراءة تفاصيل الأحداث التاريخية على السنة المعاصرين والفاعلين في أحداثها ربما تسقطها على راهن الأحداث فلا تكاد ترى تغير يذكر في مقصد الفعل رغم تبدل العصور وتطور المفاهيم، إذ ما الفرق بين من طبع ويدعو للتطبيع مع الكيان الصهيوني في فلسطين وأولئك الذين حاربوا تحت القيادة الإنجليزية لاحتلال القدس؟! مع أن الفارق الزمني بين الحدثين اليوم هو مائة عام بالضبط، لا يمكن لعاقل أن يقول أن أولئك كانوا خونة وعملاء للإنجليز لأن الوصف بالخيانة والعمالة لن يكون صحيحا بشكل دقيق إلا إذا تم تجاهل الظروف والمعطيات والحسابات الافتراضية لهذا العمل ولا يصح بالطبع القول عن دعاة التطبيع اليوم أنهم خونة وعملاء لإسرائيل أو الغرب عموما، لكن الضعف وتشتت المواقف وقلّة الحيلة ثم والحاجة الملحة في النفس البشرية للخروج من واقع يائس إلى مستقبل يعتقد أنه أفضل يتراءى للعقل والبصر ويداعب الطموحات المخلصة «أحياناً كثيرة» تقفز على المحاذير وتغمض الفطنة وتخدع، والبدوي العربي الذي كان يبحث عن قوت يومه قبل مائة عام لم يكن ليهتم بما هو وراء راهن الساعة بأكثر من تحقيق ذاتيته اللحظية، ولازال هذا موجودا اليوم وإن تمظهر بالتحضر السطحي إلا أنه أيضا ساعٍ لتحقيق ذاتيته اللحظية دون اهتمام بما وراء ذلك، هذه النظرة الضيقة الآنية لازالت باقية ولا يكاد يظهر فرق بين من قدم روحه لخدمة الإنجليز في استعمارها لأقطار عربية ومن ينكر اليوم حق العرب والمسلمين في فلسطين ويرى أن إسرائيل دولة مسالمة وديعة!
حين يجتمع العرب على إيمان وعقيدة فإنهم وبرغم الإمكانات الضعيفة قادرون على الرقي على ضعفهم والتغلب على خصومهم، فهم أمة ذات شكيمة وشجاعة ووجدان روحي شفاف ترخص الروح والفردية في سبيل المقصد والهدف بدليل استحالة تحقيق بريطانيا استعمار لفلسطين وغيرها من دول العرب دون العرب ذاتهم - وقد يتعجب الكثيرون من هذا القول - ولكن إذا علمنا أن مجاميع من قبائل عربية في الحجاز والعراق والشام والأردن وفلسطين هم من أجلى الترك عن الحجاز والشام وفلسطين تحت خديعة الإنجليز وإدارتهم بالدعايات البراقة كالثورة العربية ولمعان الذهب، إلا أن الخديعة ماكانت لتنطلي على هؤلاء لو كانت هناك فعلا قضية تجمعهم أكثر من سد حاجاتهم الآنية بدليل أن الثورة العربية تمخضت في النهاية عن استعمار جديد في حين كانت الثورة في نجد بقيادة الملك عبدالعزيز رحمه الله ذات الهدف والمقصد المقدس، إذ بدل أن تكون أداة بيد الإنجليز تحارب لتحقيق أهدافها الاستعمارية استثمرت طمع الإنجليز وحققت أهدافها هي بدعم الطامعين مرغمين أحيانا وأحيانا بكف شرهم وأذاهم، وهذا لعمري منتهى الدهاء والذكاء الذي أصبغ على المملكة العربية السعودية مهابة وهيبة مختلفة حتى قبل أن يكتشف النفط وتسخي الموارد.
خلاصة القول: إن التعامل مع القوى ذات السطوة والقوة والأهداف الاستعمارية ليس في كل الأحوال بالحرب والعداء لكنه أيضا ليس بالتبعية والغباء، وأن الفاصل بين هذا وذاك هو الإيمان الراسخ بالهوية، هذا الإيمان كفيل وحده بأن يتيح للعقل القدرة على الفصل بين استثمار قوة الخصم في ردعه وإزاحته وبين الانصهار في مخططه وتحقيق مطامعه.