د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** تتسع ذاكرة الطفل لتستعيد حكاية الشارع الذي قد يمر به ثم يتجاوزه مسرعًا، لأن فيه أذى أذنٍ أو قذى عين، ويتلون في ذهنه ذلك الكبير الذي ليس له من صفات الكبَر سوى العمر، وتسرق لحظاتِه الجميلةَ زوايا بائسةٌ مملوءةٌ بجدارياتِ الخيبة، ويشبُّ ثم يكتهل ويشيخ دون أن تغادره صورُ الأماكن والأشخاص والعبارات التي حفرت أخاديد في فطرية المواقف؛ تتجسدُ وتتجددُ بها مشاعرُ التوجس والتحسس؛ فالتربة التي تمتد فيها الجذور والتربية التي تُبث فيها البذور لا تأذن للضفتين «المرسلة والمستقبلة» أن تلتقيا عند نقاطِ تماسٍ تفترض الحوار ثم الاختيار.
** لا مناص من تعرج الطريق وتلون الرفيق ووحشية اللفظ واغتراب المعنى دون أن تختلط الصور داخل الذهن الناشئ بين من يرقى ليصبح رمزًا، أستاذًا، صديقًا وبين من يقف دون أقلهم شأنًا ليظل في دائرةِ «الفضلات» التي تزيد أعباء الكلام وليس لها موقع من الإعراب.
** تتبدل المعادلة قليلًا بعدما يتجاوز الطفل مرحلة التلقي فتكون له موازينه الخاصة التي تأذن بشيء من الانفراج، وتتسع الأقواس شيئًا فشيئًا لتحِل الابتسامة الباهتة واللغة الغائمة والمشاعر الباردة محل الاقتحام والاختصام، وفيها كفايةٌ للنأي بالنفس ولرقي الدرس دون تقاطع أو تنازع، لكن المتغير الأهم في عالم اليوم هو أن الشارع صار شوارع، والشخص تعددَ شخوصًا، والزوايا أصبحت أقبيةً وأخبيةً، وباتت تراكمات الأمس تركة اليوم فأمْضت داءها وأمَضّت.
** التأمت الموحشات الثلاث «الشخص والنص والوسيلة» في بضعة أزرةٍ يحكمها أصبعٌ أو أصبعان تُطلق ما تشاء وتنطلق كما تشاء لتبدو سوأةُ ذويها فيخشاها الصبيُّ ويمقتها الشاب، ويحتار ذو العقل بشأن استنساخ ثلاثي الأمس في أحادية اليوم ووجود التأثير الضدي لارتباكات الطفولة ومخرجاتها النفسية، فيقتعد واحدُهم مكانه في مواجهة جهازه وغياب ضميره ليسبَّ هذا ويفتئت على ذاك ويمارسَ ما كانت «الثلاثية» تمارسه، والفارق هو المدى المحدود داخل الأزقة والأفق الممدود عبر الفضاء.
** محورُ القضية هنا هو فلسفةُ الأخلاق بعيدًا عن التأطير الجامد لها في مجموعة العادات والأعراف والمواعظ، والسعيُ لاستدعاء العقل كي يَحكمها ويُحكمَها فلا يراها قيدًا تسير خلف قائدٍ ويتبعها مقود بل تتطلب قراءة تفكيكيةً لواقعٍ ووقائع تُشرِّح في معادلاتها ومعاملاتها معانيَ الصحيح والخاطئ والقبيح والجميل ومثقال الذرة من الخير وما يقابله من الشر.
** كنا سنكون أفضل في الثلاثية «سيئة الذكر» لو درسنا الأخلاق بوصفها معارف لا إملاءات، وحقائق لا محفوظات، وممارسة وليس نظريات، ولكننا ما نزال نُصرُّ على ارتداء الأقنعة من لدن ذاك الذي يتوعدُ الصبية إن مرُّوا أمام بيته حتى هذا الذي يرى نفسه حسيبًا ووصيًا وحاكمًا ومتحكمًا، وكان الأمس فردًا فصار اليوم مفردات.
** الأخلاقُ لا تُملى.