عبده الأسمري
بين التذكر والتدبر ارتباط وثيق ينسخ رمزية الوجود.. بين جيل مضى وجيل حالي مفارقات عجيبة، فهل تم الارتهان لتفاصيلها، وهل اقتص من عايش جيلين جزءًا من الذاكرة ليرسم خارطة اعتبار في ذهن الأجيال.. أم أن المسألة ظلت في هجوم ودفاع وفي اعتراف ونكران بمقومات واعتبارات بين جيل الطيبين أو «الجيل الأول» وبين الجيل الثاني حاليًا وأجيال في استشراف القدوم مستقبلاً.
تذكرت وأنا أسترجع شريط الذاكرة قبل عشرين عامًا أمام جامعنا الذي تعلم بالوراثة ودرس القرآن قبل اللغة العربية وكتب الحديث قبل العلوم. وكان ببراءته وسجيته مفتي ديار القرية بعلم مختصر وفهم منتصر.. وتأملت اليوم أن عدد القائمين بالافتاء قد وازى الشعراء الشعبيين ولا ضير أن كان خريج فقه أو دارس بلاغة أو استاذ فيزياء، الأهم «الالتزام المستدام» بالهيئة بعيدًا عن الجوهر..
تأملت أن الكرم في زمن مضى أسلوب حياة، وأن الضيف صيد ثمين للباحثين عن الضيافة، وأن الجود تنافس شريف دون بهرجة أو تصوير أو مجاملات أو مصالح مشتركة.. وعرفت كيف أن واجب الضيافة لا يفرق بين مأتم العزاء ومراسم الأفراح، ولا يميز بين نجاح طالب أو عودة مسافر أو قدوم مولود، كل ذلك كان «محفل جود» و»احتفال كرم»، كان فيه البسيط «سيد قومه» بميزان السخاء. واليوم يتهرب الناس من بعضهم وتحولت المناسبات والولائم إلى مجالس «اعتزاز بالذوات» و»تنابز بالألقاب» وتبادل للمصالح.. حتى بات الغني «بخيل قومه».
بين جيلين صرعت التقنية القلوب وتوغل التقليد أعماق الضمائر حتى تحول نقاء السرائر إلى مظاهر للجنون، وبات الارتماء في دائرة السوء انتقاماً من حاضر بائس يجثم على الذات..
عادت بي الذاكرة إلى وجوه البسطاء الذين رسموا مشهد البراءة والنقاء، وأنها ظلت تنطق بالابتسامة وتنطلق بالدعاء.. بينما وجوه اليوم متشابكة متداخلة بلا عناوين.. تحمل الوهم.. تشكل ألغازًا محيرة، فالابتسامات صفراء، والضحكات «أجبارية»، يظهر عليها الزيف تمامًا كما الفرق بين رائحة البخور في حارة شعبية مكتظة بالفرح واختناق العوادم في مدينة تتنفس الكآبة،
تأملت برودة ندى الصباح وهي تخالط أنفاس الكفاح ونحن نستعد ليوم دراسي لا يستثنى أحدًا من الالتزام والواجبات وكأننا نقوم بمهمة عسكرية مجدولة الخطط فيما باتت المدارس حاليًا لتأدية يوم دراسي بالحضور الجسدي فقط في مغادرة حتمية لكل أصول العلم وأسس التعلم.
تذكرت خبز الأمهات ورائحته التي تحدد بوصلة البركة والستر الذي يحيط بالمنازل وحتى المجانين الذين كانوا مصدرًا للخير وقارنتها بخرافة الوجبات السريعة وقضايا العنف التي باتت وجهًا مؤلمًا مدويًا واضحًا يكاد يُرى بالبصر والمجانين الذين تحولوا إلى مجرمين يتربصون بالناس طعنًا وضربًا في أوساط المدن.
لو نُقل إلينا في ذلك الزمن الجميل عما يجري الآن لقلنا إنها «أساطير» كتلك التي كنا نسمعها صغارًا عن «الغول» و»العنقاء»، أما ما ينقل لجيل اليوم عما مضى فهو محكيات شهود عيان وحاضري مشهد، فهل تدبر الجيل الحالي من تلك العبر وكيف أن البراءة سر للجمال..السؤال ما هي التنبؤات القادمة لما سيأتي، هل سنستحضر «التوقعات» في هيئة «أعاجيب» و»أساطير» أم نترك الأمر لحكمة إلهية.
علينا رسم حدود الحظر والخطر عما هو قادم حتى لا يتجاوز الواقع إطارات المتوقع وندخل في حسابات التوجس الموجوع والخوف المستبق.