د. حسن بن فهد الهويمل
الكلمة حين تكون حبيسة حنجرتك، تكون أنت مالكها الأعز.
وحين تطلقها أسلةُ لسانك، تكون مملوكها الأذل.
وهي أشبه بقطعة اللحم، لا بد أن تأخذ وقتاً كافياً على نار هادئة، لكي تنضج.
ومعاذ الله أن أكون بما أقول مُخَوِّفاً، أو مُعَجِّزاً، أو حاملاً على السكوت. فالكلمة أمانة:- [والساكت عن الحق شيطان أخرس]، وكيف تهون الكلمة، وهي شطر الجهاد بالسنان: {وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا}، أي بالقرآن، وهو كلام.
ولكن: أنى لأحدنا معرفة الحق، في ظل اللجاجات، واختلاط الأصوات، وتعدد الادعاءات، و[اللاكِنٍيَِّةِ] التي تتضخم في زمن التشرذم.
فكم من مُعَاتَب له عذر، ونحن نلوم. وكم من مُصيب قَصَد الحق من طريق، وقصده غيره من طريق آخر، فأجهش عليه المريدون، والمقلدون، وجردوه من كل فضيلة.
ولا سيما أننا في زمن [التفكيكية] التي تجترح [تأويل الفهم] بعد [تأويل المعنى]. وفي ذلك انقطاع تام عن مقاصد المرسل.
[القنوات] التي تَفْتَح لطريدتها آفاق الدنيا، وتَزْوي لها الأرض، تَعْرِضُها أمام النظارة بعلمها، وعقلها، وتصرفها، وطرائق تَخَلُّصها في المواقف الحرجة.
إذ لا شيء أصعب إحراجاً من خروجك على الهواء، وتعرضك لأي موقف: ديني، أو سياسي، أو اجتماعي، لم تحسب له أيَّ حساب.
وسواد النظارة مأخوذون بالتقليد المتعصب، والثقة المُصَنِّمة، والشيخ المعصوم، وحب المراء.
وكم من عاقل آثر السلامة، واكتفى بالمنابر التقليدية، التي يحكمها، ولا تحكمه، وفي إطار مذهبه، وجماعته.
بهذا الخوف، والتخويف، لا أَنْهَى الأكفاء من العلماء والمفكرين، ولكنني أحذرهم. بل أدعو، وألح على ضرورة ملء الفراغات بالكفاءات العلمية، والفكرية، العاقلة، المجربة، المتسمة باللين، وتَخَوُّلِ المتلقي، والمجتهدة، المستنبطة.
فَخَلُو القنوات من أولئك يتيح الفرص للفارغين، والتافهين، والمتعصبين.
زمنُ التفرق، والتنازع، والفوضى السياسية، والدينية ألجأ الناس إلى التكتلات العرقية، والطائفية. وأصبح هم الفئات الانتصار، وتصفية المخالف. ولم يعد الحق من أولويات الهموم.
لقد أحسست، وأنا أستجيب على وجل للراغبين في استضافتي في بعض البرامج التلفازية أنهم يودون أن أكون وقوداً في نار الإعلام المؤَجِّجَةِ لصراع [الآيديولوجيات] والسياسات المحكومة بالمصالح، وسائر المستجدات. ورغبتهم محصورة في ملء الفراغ، لا في تجلية الحقائق.
ومتى فَرَغَ المُسْتَدرَجُ، تحول إلى [لبانة] يمضغها كلُّ فارغ، وهدفٍ يرْشقه كلُّ مُصَنِّفٍ. وكان في النهاية مادة دسمة لمجالس الاسترخاء، وملء الفراغ بفراغ مثله. ومن تقصى المواقع، و[الهاشتاقات] أصابه الذهول، والإعياء.
[العلماء] الذين استجابوا للقنواتيين عن حسن نية، وسلامة قصد، مع توفرهم على العلم، والورع، ومعرفتهم التامة، باختلاف المذاهب، والطوائف، لهم رؤيتهم المحلية التي تنطلق من [سلفية] مُتعددة السمات، والاتجاهات. ولهم معرفتهم التامة باختلاف المجتمعات، وأنماط الحياة، وتحكم العادات.
فحديثهم، أو إجابتهم لاستفتاء [مسلمي الغرب] العلماني الصليبي، أو [مسلمي الشرق] المادي الإلحادي، يختلف عما يقولونه لقومهم داخل مجتمعاتهم السلفية، وحكوماتهم الإسلامية.
واختلافُ الأحكام باختلاف الأزمنة، والأمكنة، والأحوال داخلٌ في مباحث [علم الأصول] وله مكانته عند العلماء.
أنا أُلزِمُ محارمي بـ[الحجاب] السائد في البلاد. وعندما هاتفتني ابنتي من [تونس]، وهي مع زوجها [الملحق الثقافي] تخبرني بعدم قبول [جامعة الزيتونة] لها في الدراسات العليا، إلا باستعمال [الحجاب] التونسي الذي يلزم بكشف الوجه. قائلة: سأترك الدراسة.
قلت لها: المسألة خلافية، وليس عليك من بأس بقبول الشرط، والحصول على [شهادة الماجستير] من جامعة عريقة، حاول [العلمانيون] المتطرفون إفراغها من محتواها الإسلامي.
ولكن الله علم بنيتها فأعانها، وتغلبت عليهم بقوة [القانون المدني]، وأكملت دراستها بحجابها الذي نشأت عليه.
ما يعمق الخلاف، ويوسع دائرة التنازع، تَحَولُ العادات إلى عبادات، لا يجوز التخلي عنها. هذا فضلاً عن تعدد القراءات، وتنوع التأويلات، وتنازع المذاهب، واستفحال سوء الظن، والتعصب المذهبي.
وشبيه بما أشرت إليه قضية [العباءات] التي تلقاها البعض على غير مراد فضيلة الشيخ [عبدالله المطلق] عضو هيئة كبار العلماء، مما اضطره إلى إصدار بيان لتصحيح المفاهيم، وإطفاء لهيب المعارضات، والمزايدات.
فجاء استدراكه احترازياً، لا يسع المؤمن إلا القبول به. وما قاله فضيلته مطابق لنصوص الشريعة، ومقاصدها.
فـ [العباءة] بديل لـ[الجلباب] المنصوص به، وليس المنصوص عليه، فهي تحقق مقاصد الشريعة، ولكنَّها لا تفرض نفسها لباساً منصوصاً عليه، لأنها ليست رديفاً لغوياً. وما يفعله بعض المخالفين من سوء الظن بالمخالف، وتوجيه رؤيته وجهة غير سليمة يؤدي إلى التَّشكيك بالعلماء الناصحين، الساعين إلى تمكين المضطرين من سماحة الإسلام، والتفريق بين العادات، والعبادات.
ولا سيما أولئك الذين يعيشون في بلاد الغربة، ثم لا يجدون من يدرأ عنهم المشاكل التي تواجههم في بلاد غير بلادهم، وأمة غير أمتهم، وعادات غير عاداتهم.
مع إمكانية تفادي الصدام، والإحراج. فالإسلام بفهم مقاصده، صالح لكل زمان، ومكان.
وفك مثل هذه الاختناقات، لا يقدر عليها إلا من رزقه الله بسطة في العلم، ومكنه من التضلع من [فقه التمكين]، و[فقه الواقع]، و[فقه النوازل]، و[فقه الاختلاف]، والبراعة في إنزال الحكم على الواقعة.
[أبو الحسن الندوي] رحمه الله، كما قيل لي، يرى أن [العلمانية] في الهند هي الحل الأمثل، الذي يحفظ لـ[المسلمين الهنود] الحياة الآمنة. مع أنه يراها [كفراً بواحاً] في بلاد المسلمين.
فالذي حمله على قبول [العلمانية] كون المسلمين أقلية في بلد الكفر غير الكتابي.
وفي النهاية فإن العلماء القنواتيين أوزاع، تعرف منهم، وتنكر، وتقبل، وترفض، وتحب، وتكره:
فمنهم الأضوائي النفعي المخاتل.
ومنهم المتعصب المعاند الذي يقطع بأنه إمام [الفرقة الناجية].
ومنهم العليم المدرك لأحوال الناس، الراغب في التيسير، واستغلال سماحة الإسلام.
ومنهم الخرافي المستغل لعواطف الدهماء، والعقول الجمعية المندفعة وراء كل ناعق.
ومنهم الانتهازي المخادع، والمزايد الموجف، المتمرس خلف الآيات، والأحاديث، وأقوال السلف، التي لا يصح إنزالها على الواقع لكسب الدهماء، وتصفية العلماء.
وتظل القنوات أحابيل، تسلب المُعَافى عافيته، والحر حريته، والمحبوب حبه، والمُقَدَّرَ قَدْرَه. نسأل الله العفو، والعافية، والمعافات الدائمة في الدنيا والآخرة.
والعاقل من وُعِظَ بغيره، وآثر السلامة. فالقنوات بؤر ملتهبة كنار أصحاب الأخدود لا كنار إبراهيم، برداً وسلاماً. إنها نار لا ينجو عالم قنواتي من ورودها:- {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا}.