د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
«السحر» مصطلح غامض جامع لكثير من الأمور التي يتداولها العامة في المجتمع ويؤمنون بها في سرديات مختلفة تجمع سمات الخوف مما هو مجهول أو ما لا تفسير بيّن له. وقد ورد ذكر السحر في القرآن الكريم الذي نؤمن به جميعًا، ولكن في الوقت ذاته لم يسبق لكثير منا أن صادف سحرًا، وربما سبق وتخيل سحرًا اتضح فيما بعد أنه مجرد حيلة أو في أحسن الأحوال سوء فهم. ولذا فالإيمان بالسحر واجب ديني، ولكن سرعة التصديق ببعض الأمور على أنها سحر قد يدل على ضعف في الإيمان، ويدفع استغلال الناس بأشكال مختلفة ويثنيهم عن البحث الحقيقي عن الأسباب الحقيقية لما يخالونه سحراً. فالنصابون يستغلون البسطاء ويسوقون لهم لشعوذة والحيل على أنها سحر، ولذا فالإيمان التلقائي بالسحر مكلف أحيانًا.
أتذكر مرة في لبنان دعاني صديق إلى مرافقته لزيارة ساحر في البقاع منحته المخابرات السورية واللبنانية لوحة مرور مزدوجة لقوة سحره، ليسهل له التنقل بين البلدين والاستفادة السريعة من خدماته قبل أن يفقد سحر قوته. وأقام «الساحر» في قصر حجري فخم تحيط به مزرعة وبركة مليئة بالسمك، ولديه مواقف سيارات تعج بأفخم السيارات. والقصر عطية من أمير خليجي قد زاره للاستطباب. وفي وسط هذه الأجواء قررت الدخول مصدقاً بما شاهدته من مظاهر التعظيم له فهي ماثلة أمامي، ونصف مصدق بقدراته الخارقة التي طالما سمعت عن مثلها تردد عن مشعوذين آخرين.
ولجت إلى مكتب الساحر الزاخر بالطوطميات، وفوق رأسه لوحة ضخمة مخيفة لرجل ملتحٍ يقبض على سيف بتار أمام مصحف مفتوح قصد بها ربما تجسيد لـ علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، أو أن سحر صاحبنا شرعي حلال. المكتب فقط قد يسحر البعض قبل الساحر. لم أذكر له أي شكوى لكنه بادرني بأسئلة في منتهى الخصوصية يخجل الإنسان أن يفصح عنها مع أقرب الناس له. ومعروف في علم النفس أنه تسهل السيطرة على شخصية الفرد كلما أبان عن معلوماته الخاصة جدًا. استغربت أسئلته وتقززت منها وردد عليه: حسنًا سأجيبك إذا جاوبت أنت على الأسئلة ذاتها عن نفسك. نظر لي شزرًا وقال: يبدو أنك لا تريدني أن أعالجك وارفع السحر عنك؟ فأجبت أنا لم اشتك لك من أي شيء! فتساءل، ألست أنت الذي يشكي من «العنة» بتأثير السحر. فضحكت بصوت قوي وأجبت، يبدو أنك أخطأت الرقم، ولو كنت فعلاً ساحرًا لعرفت أنه ليس أنا من يشكو من ذلك بل ربما شخص آخر. استشاط غضبًا وطلب مني الخروج والتوقف عن إضاعة وقته الثمين، فوقته من ذهب يدفعه له المغفلون.
وشاهدت مؤخرًا قصة وثقائية على «البي بي سي» البريطانية عن رجل من دولة مالي يدعى فوتانقا سلط سحره الأسود الإفريقي «الفودو» على مدير بنك إسلامي كبير في أحد الدول الخليجية وحصل منه على مبلغ يقارب المليار ريال على شكل حوالات متتابعة للخارج مكنت الإفريقي الفقير الذي قدم أساسًا للبحث عن فرصة عمل أن يتحول إلى إمبراطور يعيش أجواءً ساحرةً فعلاً في أمريكا: قصور، نساء، سيارات إلخ.
فقد سمع مدير البنك أو أسمع واسمه أيوب أن «فوتانقا» ساحر يكثر الأموال بواسطة السحر الأسود فسحره الطمع وأعماه عن الخدعة المحكمة التي دبرت له فور دخوله شقة فوتانقا المتواضعة: أطفئت الأنوار واشعلت بعض المداخن واحدثت بعض الجلبة والضوضاء، فطلب فوتانقا من أيوب الخروج فورًا العودة مرة أخرى لأنه الآن تحت السيطرة الكاملة لجن السحر الأسود!! وعاد المدير في أقرب فرصة محملاً برزم من المال كانت كافيه ليدبر فوتانقا أمره بسلسة من الحسابات البنكية الخارجية ليحول لها أيوب المال لسنوات حسب توصية الجنى الأسود. ومن أجل ألا يفسد السحر، وحتى لا يعرف أحد من البنك بالأمر، اتفق الاثنان على السرية التامة.
وبينما كان أيوب ينتظر بفارغ الصبر عودة الأموال مضاعفة، افتضح الأمر في البنك لضخامة المبلغ، ولم تفلح الدعوى التي أقامها البنك ضد فوتانقا في أمريكا لعدم وجود عقود أو مستندات كافية، والنظام الأمريكي لا يعترف بالسحر. ولما ضاقت الدائرة عليه، عاد فوتانقا لمالي وحصل بمال أيوب على حصانة ديبلوماسية وعضوية في البرلمان. زارت الصحفية فوتانقا في مالي وعند سؤاله عن قصته أجاب أن أيوب وأصدقائه هم من سرق المال، وأنه لا يوجد مغفل في العالم يؤمن بأن السحر يكثر المال، ولو كان الأمر كذلك فما الحاجة للبنوك والشركات؟! وبيني وبينكم بعد هذا القصة التي سحرتني وأسقطتني من الضحك.. بدأت فعلاً أومن بالسحر.