عبده الأسمري
حام في سماء المهمات واستقام في ميدان الشرف.. عاش بين الأجواء موجها وفي الأرجاء وجيها ..سار بين الصفوف أرضا تلاحقه «التحية العسكرية» قياديا ومضى أمام الأسراب جوا ترضخ له «المقاتلات» قائدا.. روّض الطائرات وفوض التوجيهات في منظومة «شرفية» جناها بالدراسة ووظفها بالخبرة وسطرها بالملحمة.
إنه قائد القوات الجوية الملكية السعودية السابق ورئيس الجمعية الوطنية للمتقاعدين معالي الفريق طيار متقاعد عبدالعزيز هنيدي أحد رموز سلاح الجو السعودي وأبرز المؤثرين في خارطة العمل العسكري.
بوجه حنطي تميزه علامات «الصرامة» والاستقامة وعينان حادتان تتحرك باتزان حين الحديث وإتقان أثناء السماع وملامح مركبة من اليقظة والترقب مع شارب كثيف وصوت جهوري تسكنه معلومات الطيران وإشارات الطلعات الجوية وتتقاطع منه لهجة جنوبية عتيقة مع أخرى حجازية ونجدية معتقة ظل هنيدي عقودا محنكا حاضرا في منصات «التدريب» وساحات «الاستعراض» ومؤتمرات «الطيران» ممارسا للمسؤولية حارسا للقيم المهنية ليكمل العطاء بعد تقاعده في منظومة جديدة في مؤسسة مدنية راسما دربا لا يعترف بالعمر ولا يرتهن إلى الخضوع التخصصي ولكنه شق طريقه من بين عتبات المعاناة ووسط عتمات التغرب وبين مسارب الإصرار فكان وظل قامة تمتلك سر النجاح وجهر الفلاح مسجلا اسمه في سجل الشرفاء وفي لائحة الأوفياء.
ينظر هنيدي إلى الوطن وجهاته الأربعة كفضاء حياتي عاش فيه طفولة موغلة في العناء والاستغناء جعلته يبتعد عن أمه سنوات من عمره متوغلا في مغبة «الترحال» وغلظة «الرحيل» مستوقفا قطار عمره أمام محطات «الابتكار» موقفا بوصلة حياته نحو محافل «الاقتدار».
بين عسير والمدينة المنورة وجدة والرياض والشرقية تكاملت حياة هنيدي المترعة بصخب المهمات وعصب الهمم وركب الناجحين، فغرد أمام السرب موليا وجهه نحو «السمو المهني» تماما كما كان يوجه الطائرات إلى ركائز الأهداف.
تشرب هنيدي من حياض «الوطن» حيث ولد في نجران من أم جنوبية عندما كان والده يعمل في الديوان الملكي أيام الملك عبدالعزيز -رحمه الله- ونشأ في بيشة مسكوناً بمضارب البادية مفتونا بسحائب السراة ودرس في قرية صغيرة حتى الخامس الابتدائي ثم انتقل لأعمامه في المدينة المنورة وهناك بدأ مرحلة أخرى حيث تلقى جرعات سكينة المكان وطمأنينة عم صائم قائم وعمة كريمة أصيلة.
كان هنيدي يختلس النظر من بين تقاطعات الجمهور إلى طوابير العروض العسكرية أمام أمير المدينة المنورة ثم يمكث في المساء على أسطح المنازل مخطوفا إلى صوت طائرة الداكوتا منجذبا إلى حوار الأمنية متجاذبا مع اعتبار الهوية فتشكلت «موجهات الطريق الوظيفي» في بوتقتها الأولى.. رحل هنيدي ومعه مجموعة من الأصدقاء إلى الأحساء لدراسة المتوسطة والثانوية حيث كانت وجهة أميز في ذلك الحين وانخرط في وظيفة بالجمارك براتب 210 «ريال فضة» لمواجهة شظف العيش وعتمة الغربة.
انشد هنيدي إلى معارج الظروف ومسارب العقبات بانفصال والديه وهو ابن الرابعة عشرة وكانت تلك «التشكيلة النفسية» التي حددت هويته وبلورت سويته على درب لا يقبل أنصاف الحلول .نال الكفاءة المتوسطة ثم انتقل إلى جدة وعمل بوظيفة «مونفيست» بالمطار لتتبلور هيئة «المستقبل» من جديد بتضاريس العصامية ومتاريس الدافعية وهو يراقب مدرجات الطائرات من مدارات الطموحات فأنعش حلمه من جديد قبالة الأسطول الجوي الذي تولاه لاحقا قبطانا وسلطانا..
التحق بسلاح الطيران بجدة ثم انتقل للظهران مع بعثة أمريكية ثم عاد وأكمل عامين وتخرج برتبة ملازم طيار.. وتدرج في مناصب الطيران من طيار إلى مدرب طيارين وضابط تدريب وظل أربعة عقود متنقلا بين كراسي المسؤولية حتى تمت ترقيته رتبة فريق كقائد للقوات الجوية وسطر خلالها ملحمة بين الأرض والسماء للعمل الاستراتيجي والتكتيك الحربي وتقاعد بعد عقود من الصمود والتطوير واضعا بصماته على القرار وكلماته في سجلات الاحتفاء ونال وسام الملك فيصل من الدرجة الممتازة .ولأنه خبير في إدارة الوقت فقد رفض المحارب «هنيدي» الاستراحة الشهيرة ليرأس جمعية المتقاعدين ولا يزال وهو ينصر قضاياهم وينثر عبير الآمال لهذه الفئة التي أسماهم «الموفين خدمتهم» مستبدلا أنواط الطيران ونياشين الأسراب الجوية بأحلام المتقاعدين وأمنيات الكبار.
عبالعزيز هنيدي رمز وطني وأنموذج مهني سطر البطولات في الجو وعطر المناصب بأريج المثالية وأمطر الدرب برصيد خبرة وعتاد عمر وظفها بعقلية القائد وعقلانية الخبير.