د. جاسر الحربش
أعتقد أن تبادل وقبول الدعابات الساخرة بين مكونات المجتمع الاجتماعية والجغرافية من أهم المؤشرات على التعايش والاستقرار. الحد الفاصل بين اعتبار نكتة أو طرفة اجتماعية دعابة، وبين رفضها كسخرية أو عنصرية هو الاستعداد النفسي لقبول الآخر. قد يتقبل الفرد والمجتمع طرفة تصل إلى حدود السخرية بناء على الثقة المتبادلة، وقد ينزعج إلى درجة الرد العدواني لأنها تثير عنده أحكاما ً مسبقة غير مريحة. كلما طال التعارف والتمازج والتآلف على مستوى المجتمعات رفعت الكلفة وصعد مؤشر التحمل المتبادل، إلى أن تحاول جهة خارجية معادية أو تيار مؤدلج تعكير المياه.
في واحدة من حلقات التلفزيون البريطاني (اعتن بانجليزيتك Mind your English) يقوم ثري عربي برشوة إدارة المدرسة لتسجيل سائقه رغم أنه بريطاني الأصل في كورس اللغة الإنجليزية في منتصف الفصل الدراسي. الحوار في تلك الحلقة يقدم خلطة تمتزج فيها الدعابة بالسخرية بالتعليقات العنصرية، لكن بطريقة تشمل الجميع فلا يستطيع أي طرف الشعور بالإنزعاج. مديرة المدرسة ذات الأصول الإنجليزية المحافظة ترفض في البداية سائق الشيخ حمد لأن النظام عندها هو النظام ولا يسمح بتسجيل أحد في منتصف الفصل الدراسي، لكنها بعد دقائق تلحس كلامها عن النظام مقابل ألفي جنيه استرليني يقدمها الثري العربي كإعانة للمدرسة، أي أن الإنجليز لا مبادئ لهم أمام النقود. الثري العربي يحصل على كل ما يريد في بريطانيا كالعادة مقابل الرشوة، أي أن العقلية العربية رشوية لا تتقيد بنظام. المدرس الإنجليزي الشاب ينبه الثري العربي إلى الفرق بين إقامته في فندق دوتشستر حيث المال كل شيء وبين مؤسسة بريطانية تعليمية، ولكن المديرة تقمعه. في النهاية يدخل السائق الأبيض المولود في مدينة جلاسكو البريطانية فيتساءل المدرس الشاب باندهاش، إنه إنسان أبيض لماذا عليه تعلم الإنجليزية، والسخرية هنا أن المنطق عند المدرس الأبيض يفترض أن كل أبيض يجيد الإنجليزية. عندما يدخل السائق ويحاولون الحديث معه لا يفهمون مما يقول كلمة واحدة لأنه ليس إنجليزيًا وإنما من جلاسكو. الحلقة بكاملها تشبه طبق سلطة من السخرية لا فرق فيها بين الخس والجزر والفجل والطماطم.
الملاحظ أن سخرية الجميع من الجميع وتقبل ذلك كدعابات ظاهرة واسعة الانتشار في أوروبا وتعتبر من منكهات وبهارات الحياة اليومية. في العقدين الأخيرين مر المجتمع السعودي بمرحلة من المداعبات الساخرة، ولم يكن ذلك يثير غير الضحك والانشراح عند الجميع، المنكت والمنكت عليه. مع انتشار إمكانات التخفي والدس في وسائل التواصل الاجتماعي ونثر بذور العنصريات السامة بدأت تظهر تعليقات وصلت للأسف أحيانًا إلى التعرض للأصول الجغرافية والعقائد والأخلاق.
هل هي تعبيرات عن مشاعر بدائية مكبوتة، أم توجسات اقتصادية تحاسدية، أم أن أكثرها مدسوس من الخارج في شبكات التواصل؟
كل ذلك لا يهم لكن المطلوب في كل الأحوال هو الاهتمام بالظاهرة قضائيًا وعقابيًا قبل أن تنتشر أكثر.