نجيب الخنيزي
«ما برح تحقيق التنمية المثمرة والعادلة يمثل أعظم تحد يواجهه البشر، وبرغم التقدم الطيب الذي تم إحرازه في الجيل الماضي فما زال هنالك أكثر من مليار نسمة يعيشون في فقرحاد ويعانون معاناة هائلة من القصور في الحصول على الموارد كالتعليم والخدمات الصحية والبيئية الأساسية والأراضي والأثمان وهي الموارد الكفيلة بإعطائهم فرصة حياة أفضل والمهمة الجوهرية للتنمية هي تهيئة الفرص التي تتيح لأولئك القوم والمئات من الملايين البسطاء الحال استغلال إمكاناتهم.
مع أن هدف التنمية أصبح أمرا معترفا به عالميا فقد شهدت السنوات القريبة قلقا متزايدا بشأن ما إذا كانت القيود البيئية ستحد من التنمية وما إذا كانت التنمية ستتسبب في دمار بيئي خطير ينتقص بدوره من نوعية حيازة هذا الجيل والأجيال المقبلة وهو قلق تقادم عليه العهد» من مقدمة تقرير البنك الدولي حول التنمية والبيئة.
تزايد الاهتمام في السنوات الأخيرة بدراسة العلاقة العضوية والمباشرة ما بين أساليب وأنماط التنمية الجارية في المجتمعات الإنسانية المختلفة «المتقدمة منها والمتخلفة على حد سواء» والمحيط البيئي، وانعكاساته على طبيعة ومستوى التطور الجاري على صعيد نوعية الحياة ونوعية البيئة الحاضنة لها. وقد احتلت قضايا البيئة والتنمية الصدارة في اهتمام العلماء والباحثين والخبراء ورجال السياسة والفكر والاقتصاد، ولأول مرة في التاريخ نشهد انبثاق وتشكل حركات ومنظمات اجتماعية وحقوقية وسياسية، تتمحور برامجها وأهدافها حول البيئة وضرورة الحفاظ على مقوماتها الطبيعية، ورفض أية إجراءات قد تعرض التوازن البيئي أوالحياة الحيوانية والنباتية والإنسان للخطر، وليس أدل على اتساع الوعي والاهتمام الشعبي بهذه القضايا الحيوية، من تلك المكانة المتزايدة والنفوذ المتعاظم اللذين تتمتع بهما منظمات وأحزاب الحضر في بلدان الشمال المتقدم. أما في بلدان الجنوب فإن هذه القضايا لا تزال تعتبر من الأمور الكمالية والترفيهية، وغالبا ما يجري تجاهلها بالكامل، علماً بأن نتائجها السلبية أكثر خطورة وتطال في الصميم مفاهيم وأهداف التنمية ومصير البشر على وجه الخصوص، حيث التخلف المريع في البيئة المادية والبيئة الإنسانية، وتشير المعطيات والإحصائيات إلى أن سكان العالم يقدرون حاليا بأكثر من 7 مليارات إنسان، ومن المتوقع أنه حتى عام 2030 سينمو سكان العالم بما مقداره 3.7 مليارات نسمة، وسيتطلب ذلك زيادة إنتاج المواد الغذائية بنسبة 60% ونمو الإنتاج الصناعي واستخدام الطاقة 300% في جميع أنحاء العالم، مما سينجم عنه حتما تدهور وخراب بيئي خطير إذا لم تتخذ الاحتياطات اللازمة، وتوضع موضع التنفيذ الخطط والبرامج التي توصل إليها الخبراء، ومؤسسات البحث العلمي. وبطبيعة الحال فإن ذلك يعتمد بدرجة أساسية على تضافر جهود المجتمع الدولي وصانعي القرار فيه وبخاصة الدول الغنية، والتي تعد مسئولة بدرجة كبيرة عن الكارثة البيئية المحدقة، وما يرافقها من ازدياد حدة التفاوت والفقر خصوصا بين بلدان الشمال وبلدان الجنوب.
صحيح أن الإنسان يتمتع في الوقت الحاضر بحياة أطول، وصحة أوفر، وغنى وإنتاجية أرفع مقارنة بأي فترة تاريخية مضت، ولكن ذلك يشكل جانبا واحدا من المسارات، إذ لا يزال حاليا مليار شخص يعيشون في فقر مدقع وأن ثلث عدد سكان العالم يفتقرون إلى وسائل الصرف الصحي ومليار نسمة لا يجدون مياها نظيفة، وهناك 3 مليارات نسمة معرضون لأوضاع خطرة يسببها السناخ والدخان.
وفي النصف الثاني من الثمانينيات كان حوالي 1.3 مليار نسمة في جميع أنحاء العالم يعيشون في مناطق حضرية لا تتوافر فيها المعايير الخاصة بمسائل الهبائية الدقيقة «الغبار والدخان المحملين في الهواء» والتي وضعتها منظمة الصحة العالمية، وكذلك تلوث الهواء ومصادر المياه، وتدمير الموائل الطبيعية،كالأحراش والغابات الاستوائية والأراضي الساحلية والشعب المرجانية، وفقدان التنوع الحيوي والانقراض المتسارع لأنواع الكائنات الحيوانية والنباتية، واجترار الناجم من تراكم غاز ثاني أكسيد الكربون وغيره من الغازات والمواد الكيماوية، واتساع ثقب الأوزون، ناهيك عن مخاطر التلوث النووي والكيماوي والجرثومي. كل ذلك يمثل المحصلة الملموسة لأساليب الإنتاج والحياة والاستهلاك للحضارة «الرأسمالية» المعاصرة والتي تعني الإنتاج من أجل الإنتاج، والنمو من أجل النمو، والاستهلاك من أجل الاستهلاك.
غابية السوق، وتشيؤ الإنسان ذي البعد الواحد واغترابه، وتخريب التنمية والبيئة هما وجهان لعملة واحدة لا انفصال بينهما. غير أن طبيعة المشكلات وتفاوتها، ترتبط بمستوى تطور التنمية والهيكل الاقتصادي، والإمكانيات المتاحة والسياسات البيئية المتبعة، ففي البلدان المتخلفة الفقر هو السبب المباشر للافتقار إلى المياه النظيفة والمجاري الصحية وهي سبب رئيسي لـ900 مليون حالة إسهال في كل سنة، تترتب عليها وفاة أكثر من ثلاثة ملايين طفل، كما يوجد 500 مليون يعانون من البلهارسيا، ويؤدي تلوث الهواء الناجم من حرق الأخشاب وتدهور وإنهاك الأراضي إلى نتائج مماثلة، فهنالك ما بين 300 – 700 مليون امرأة وطفل يعانون من التلوث الحاد في الهواء داخل المنازل بسبب استخدام الخشب في الطهي (هذه الأرقام وفقا لإحصائيات البنك الدولي الصادرة في 1990).
كما أدى تقلص المساحات الزراعية ونضوب الموارد من المياه، إلى إجهاد الأراضي وتقليص إنتاجيتها، وإلى تجريد سفوح التلال، وهو ما أدى إلى الكثير من الكوارث الطبيعية والتغيرات البيئية. الصلة الأكيدة بين الفقر ومشكلات البيئة، لا تعني بأي حال إغفال عوامل رئيسية أخرى، لها تأثيرها الهام في استمرار الفقر والتخلف والتبعية في بلدان الجنوب، ومن بينها استمرار استنزاف الموارد من تلك البلدان بأبخس الأثمان، واتساع الفجوة الاقتصادية الصناعية والزراعية والخدماتية والحضارية والعلمية والتكنولوجية بينها وبين دول الشمال المتطورة، وفشل السياسات الإنمائية التي حاولت دول الجنوب استيحاءها من الغرب، بغض النظر عن العوامل والظروف والشروط التاريخية الملموسة التي تميز بها تطور الغرب آنذاك.
للحديث صلة