د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
ليس بجديد حين يقال إنَّ السينما فنٌّ جامعٌ للفنون الإنسانية؛ فهو مرآة للنفس، يحرك ويؤثر ويجذب الأحاسيس والمشاعر إذا تم استخدامها وتقديمها بشكل صحيح ومثالي فاعل؛ إذ تسهم في الارتقاء بالنفس فكراً وثقافةً لتسمو بتطلعاتها وآمالها إلى تطوير الحضارة الإنسانية، وتساعد في إقامة حوار حقيقي بين ثقافات الشعوب المختلفة.
وما دامت السينما قد دخلت وطننا الحبيب في هذا العهد الميمون فأرى أنها فرصة عظيمة للتعامل معها التعامل الأمثل، واستثمارها بصورة أفضل، بحيث تسهم في خدمة الدين والوطن والفكر والثقافة، ونشر التسامح والقيم الإنسانية، إضافةً إلى الإمتاع الفني والإدهاش الأدبي الذي تبدع مثل هذه الفنون البصرية في تقديمه بشكل مؤثر وبديع.
إنَّ السماح بدخول السينما في البلاد ينبغي ألا يُفهم منه الاكتفاء بالتفرج والمشاهدة، ومجرد الاستيراد والاستهلاك، بل يجب أن يكون الطموح أعلى وأرقى وأقوى، وأن نشرع في إنتاج أفلام حقيقية تعبر عن هويتنا، وتمثل ثقافتنا، وتخدم ديننا ووطننا، وتحقق رؤيتنا وأهدافنا، وتسهم في إيصال رسالتنا إلى العالم أجمع.
إنَّ الذكاء يكمن في استثمار هذه النافذة المهمة التي فُـتحت على مصراعيها في كل ما يعود على المجتمع السعودي بالفائدة والمتعة، ولا يمكن أن يتحقق ذلك حين نكتفي باستجلاب الأفلام السينمائية الغربية التي أشبعتنا بقيمها، وحفظنا أهدافها وتلميعها لأوطانها وأفكارها وثقافتها عن ظهر قلب، بل لا بد أن نسعى إلى الإنتاج والتصدير. ومثل هذه النافذة العالمية تعد الوسيلة الأنسب لقول كل ما نريد أن نقوله، وإيصال كل ما يمكن إيصاله إلى العالم من أهداف ورؤى ورسالة وأفكار وثقافة ومبادئ وقيم، وتعريف بسماحة الإسلام، وبمنجزات الوطن ونشأته وتاريخه، وغير ذلك مما لم نتمكن من إيضاحه والكشف عنه، مما يتصل بديننا ووطننا وأفكارنا ومعتقداتنا.
ثم إنَّ إنجاز مثل هذه الأهداف، وتحقيق مثل هذا الاستثمار لا يعني أننا يجب أن نبدأ من جديد، لأني أثق أن لدينا من الخبرات البشرية الوطنية والتجهيزات الآلية والقدرات المالية ما يمكّننا من تقديم الجديد والمفيد من خلال استثمار هذا الفن البصري الذي يجذب الملايين، ويؤثر فيهم، ويرسخ في أذهانهم كثيرًا من الصور النمطية التي يريد صانعو هذه الأفلام السينمائية زرعها في النفوس، وإقناع الناس بصدقها، والإيمان بها.
لقد كتبتُ ذات مرة - وقبل أن يُسمح بدخول السينما إلى الوطن - أن الغرب أبدعوا في استثمار هذا الفن البصري الجميل، وأفادوا منه في توثيق أحداث أوطانهم، وأجادوا في عرضها بأسلوب لا تنقصه المتعة، وبطريقة لا تخلو من التشويق، مضمِّنين ذلك مجموعة من الرسائل التي تسعى إلى تعزيز انتصارهم وعزتهم وقوتهم وفخرهم بوطنهم وثقافتهم في النفوس، ومرسخين في الأذهان أهمية هذه الحوادث، وكيف أنها كانت مفصلية مؤثرة في التاريخ العالمي، حتى لو لم تكن كذلك.
قلتُ حينها إنَّ من الصور التي يمكن لنا من خلالها استثمار السينما أن تُوثَّق أحداثنا التاريخية والمجتمعية بمثل هذه الطريقة السينمائية، وحين أقول: عن طريق (فيلمٍ سينمائي) أستبعد (البرامج الوثائقية) التي يكون عليها الإقبال أقل، وينقصها كثير من الأمور التي تجعلها ممتعة جاذبة. فعلى سبيل المثال يمكن عمل فيلمٍ سينمائيٍّ عن فتح الملك عبدالعزيز للرياض وتأسيسه للدولة السعودية، كما يمكن إنتاج أفلامٍ أخرى عن كلِّ ملكٍ من ملوك وطننا الغالي والجهود التي بذلوها في استقرار الدولة ورفاهية المواطن، ثم أيضاً هناك أحداثٌ مشهورةٌ وغير مشهورة يمكن للمخرجين المحليين الاستفادة منها في إنتاج فيلمٍ يوثقها، كحادثة (جهيمان)، ومشاركة الدولة في حرب الخليج، ومعاناتها من الإرهاب، وانهيار سوق الأسهم، وعاصفة الحزم، وغيرها من الأحداث السعودية المفصلية في تاريخنا السعودي المجيد.
وأشرتُ أيضاً إلى أهمية توثيق الحوادث الاجتماعية والتحولات التي يمكن إنتاجها في فيلمٍ سينمائي، يوثِّقها ويعرِّف الأجيال من بعدنا بها، كدخول الأطباق الفضائية والجوالات والإنترنت إلى المملكة، والتحولات والتغيرات التي صاحبتها، وموقف المجتمع منها، وكيف تقبلوها. كما يمكن أيضاً الاستفادة من بعض الكوارث التي قدرها الله على الوطن كالغرق الذي تعرضت له مدينة جدة قبل سنوات قليلة، وغيرها من الأحداث العامة والخاصة التي أجزم أنَّ المهتمين لو بحثوا فيها وتقصوا عنها وأولوها العناية والاهتمام لخرجوا بكثيرٍ من القصص التي تصلح لأن تكون أعمالاً سينمائية في غاية الروعة، إذا أحسن المسؤول كتابة حواراتها، وأتقن إخراجها وتسلسل أحداثها وحبكتها وعقدتها وترابط مشاهدها، واختار لها المبدعين من الممثلين القادرين على إيصال الفكرة والأهداف بدقة ومنطقية وإقناع إلى المشاهدين.
لقد سبقتنا دول العالم في هذا الفن بمراحل زمنية طويلة، كنا وقتها نكتفي بالمراقبة والمشاهدة من بعيد، دون أن يكون لنا أدنى دور في ذلك، وقد آن الأوان أن نستفيد من هذه الخبرات السينمائية والتجارب الجيدة التي أبدعتها الدول في إنتاج الأفلام. لنبدأ من حيث انتهى الآخرون، لا أن نعيد اختراع العجلة من جديد، ونحاول أن نستفيد من هذه النافذة الإبداعية قدر الإمكان.