قاسم حول
في تكريمه بمهرجان سينمائي، قال الفنان والممثل السينمائي المصري «عزت أبو عوف»إنني أوصي بحرق أفلامي بعد وفاتي» وأضاف «إنني سأتعرض لهجوم بسبب هذا الطلب ولكني أحب أن أعبر عمّا بداخلي» هكذا نشرت التصريح مجلة «لها». ترى هل يقصد «عزت أبو عوف» أن تحرق أفلامه واقعياً، وهو لا يحب أن يرى جمهوره تلك الأفلام التي صرح على سبيل المثال، أنه يشعر بالخجل لمشاركته في تمثيل دور في فيلم «أيظن» والذي يعتقد أن الفيلم سبب له إحراجاً!
بعد عرض هذا الفيلم ترأس عزت أبو عوف مهرجان القاهرة السينمائي. وكنت أنا يومها أحد أعضاء لجنة التحكيم. وتقضي البروتوكولات أن يستقبل رئيس المهرجان رئيس وأعضاء لجنة التحكيم، ولكن ذلك لم يحصل ما أثار اندهاشنا واستغرابنا! كان الفنان عزت أبو عوف قد عاش فترة من الاكتئاب! يحصل ذلك مع الكثيرين حين يتقدم بهم العمر! حدث هذا مع همنغوي وتنسي وليامز .. والكثيرين من المرهفين حساً!
التصريح الذي أدلى به الفنان القدير «عزت أبو عوف» وهو يكرّم في مهرجان سينمائي، يوصي بحرق أفلامه كلها بعد وفاته! وأعلن أبو عوف وصيته تلك فور صعوده على خشبة المسرح لتسلّم جائزة تكريمه وأردف قائلاً «أعرف أني سأتعرض لهجوم بسبب هذا الطلب ولكن أحب أن أعبر عمّا بداخلي» وأكد أبو عوف في عدة لقاءات تلفزيونية سبقت هذا التصريح، أنه يقبل بعض الأعمال الفنية أحياناً من أجل الحصول على المال، وأنه شعر بالخجل عندما قبل دوره في فيلم «أيظن» الذي ظهر بالبوكسر خلال أحد مشاهده، في نفس عام توليه رئاسة مهرجان القاهرة السينمائي، وهو ما سبب له إحراجاً كبيراً!
قد يعني ضمن ما يعنيه الفنان القدير «عزت أبو عوف» أن تكريم الفنان في حياته هو شأن جميل، إذا أن الكثير من بلدان المنطقة تكرّم الفنان بعد رحيله عن هذه الحياة، فتقيم النصب التذكارية لشخصه، وتطلق اسمه على بلاتوهات التصوير أو تسمي البلديات بعض الشوارع باسمه، وفي حياته قد يلهث بالحصول على المال غير آبه بمستوى الفيلم. وهنا جوهر الكلام والتصريح، وهو يتسلم شهادة التكريم، وبقدر نشوة الفرح في التكريم فإن لمسة الحزن لا بد وأن تعتريه، إذ يشعر بأنه قد بلغ مرحلة النعاس في تكريمه على مجمل أعماله وأدواره التي أداها في السينما العربية المصرية! وقد يعني فيما يعنيه أنه لا يشعر بعين الرضا من جميع أعماله ضمنا، فالسينما العربية بحد ذاتها، لم تبلغ القياسية في لغتها التعبيرية جمالياً وفنياً فتندرج ضمن السينما العالمية. وكلمة العالمية هو تعبير قابل للتفسير، فغياب المنتج العربي الشجاع والثري، يحول دون توفير الفيلم القياسي، وغياب شبكات التوزيع ساهمت في اختفاء الفيلم العربي عن جمهور المشاهدين في العالم. وقيام المنتج بمغازلة رغبات العامة في مشاهدة الأفلام تدفعه لإنتاج أفلام فيها الكثير من التهريج، والإسفاف في الحوار الفائض الذي يثير الضحك لدى العامة بدلاً من التوجه نحو كوميديا الموقف وكشف مرارة الواقع عبر الكوميديا الراقية. الإنتاج السينمائي العربي إنتاج سريع غير مدروس والأفلام التي شكلت إضاءة في تاريخ السينما العربية هي أفلام غير ربحية تمولها عادة مؤسسات عالمية ومنها على سبيل المثال لا الحصر فرنسا. هنا يأتي الشعور بالندم أن يقبل فنان مثل عزت أبو عوف تمثيل أدوار غير مقنعة، قد يدفعه لقبولها حاجته إلى المال، فيشعر بعد أن يعرض الفيلم على الشاشة بعدم الرضا من أدائه لأن الفيلم بمجمله لا يمنح فرصة التألق وفرصة الاعتزاز، فيتمنى لو يتم إحراق الفيلم.. وهذا ما حدا بالفنان عزت أبو عوف إلى إعلانه أن تحرق أفلامه بعد رحيله عن هذه الحياة!
السينما العربية في عمومها سينما غير قياسية في لغتها التعبيرية، وهي سينما بقيت محلية رغم كم الإنتاج السينما العربي. ففي جانب أن الحكومات ومؤسسات الثقافة العربية لا توفر الجانب الاقتصادي الداعم للإنتاج ما يتيح للمنتج والمخرج والمخرج المنفذ أن يأخذ مداه الزمني في دراسة الفيلم وحبكة السيناريو وإثراء الممثلين في أجورهم من توزيع نسب الميزانية، وفي جانب آخر محاولة فتح آفاق لعروض الأفلام العربية كي تنافس الفيلم غير العربي الذي يتمتع بقوة الإنتاج والتي تنعكس بالضرورة على محتواه ومستواه الفني. هي حسرة ألمت بالفنان «عزت أبو عوف» أن ما قدمه هو أقل بكثير من قدرته الإبداعية المخزونة في ذاته فهو إضافة إلى كونه ممثل قدير فهو موسيقى وملحن ذو موهبة مرموقة المكان. يشعر بأنه طاقة كبيرة ومتألقة ولكنها ليست ظاهرة على أدائه، وحتى لو تألق في هذا المشهد أو ذاك فإن هذا التألق رهين بكل مفردات لغة التعبير في كامل الفيلم، والتي لم تحقق القياسية الجمالية والبنيوية في الفيلم. يتألق مشهد هنا ومشهد هناك في حبكته وفي أداء ممثليه ولكن الفيلم بمجملة غير محكم البناء. هو حزن مشروع وقد أخذ تفسيرات عديدة وانعكس في قراءته من قبل الصحافة حتى على حياته الخاصة وعلى رحيل زوجته «فاطمة» وهو بهذا العمر الذي يحتاج إلى رفيقة حياته في أيامه التي ينبغي أن تبقى أياما شابة حتى لو رغب في مشاهدة نفسه عبر تاريخه على شاشة، يشعر منها بالاعتزاز ولا يشعر بالندم والاكتئاب! وبعد رحيل زوجته «فاطمة» أصيب بحالة من الاكتئاب الشديد وانعكاس حالة الاكتئاب على حالته الصحية ما يزيد الاكتئاب اكتئاباً!
«عزت أبو عوف» مثل الكثير من الممثلين المبدعين العرب يملك طاقة كبيرة وموهبة أكبر جديرة بأن يرتقي بفنه ويتفاعل مع فيلم، يحمل كل مواصفات الجمال والبناء والتشويق التي تتميز بها الأفلام العالمية .. عمر مديد لعزت أبو عوف وهو موهبة متألقة وكبيرة واضحة .. وقديما ورد في أسطورة سيزيف «آه يا روحي العظيمة لا تطمحي إلى الخلود ولكن استنفذي حدود الممكن» والممكن في السينما العربية قد يكون شيئا مؤسفا لا يتناسب مع قدرات عزت أبو عوف ولا يتناسب من حجم الثروات والأموال التي تبعثرها البلدان ويبعثرها الحاكمون على ملذاتهم الخاصة دون أن يمنحوا الثقافة الحقة جزءاً يسير من ذلك البذخ .. ذلك ما سبب لعزت أبي عوف من الحزن والاكتئاب، وما عبر عنه بالقول «أحرقوا كل أفلامي» .. سنحتفظ بافلامك بذاكرتنا أيها الممثل القدير .. هذا هو حال الثقافة السينمائية العربية التي لا توليها المؤسسات إهتماماً. أنت جدير بالسينما المتفوقة والمحكمة البناء، ولكن السينما العربية ليست جديرة بموهبتك، لأنها ليست سينما قياسية في مفردات لغتها التعبيرية والجمالية .. وهنا يكمن سر الكآبة الحقيقي!