فيصل أكرم
يخرج الأبُ ليلاً كل يوم من القرية ويجلس ناحية الجبل منتظراً ابنه الغائب حتى مطلع الفجر، بينما الأم معتكفة في بيتها تصلي لله أن يرحم ابنها ويكرم نزله ويجعله شفيعاً لأبيه ولها عنده ويحفظ زوجها من الصدمة إذا عرف أن ابنه المنتظر قد أصبح ميتاً.
هذا مشهد قد يكون عادياً في فيلم عربي زمن الأفلام العربية المؤثرة عاطفياً إلى حد ما، ولكن المشهد هنا يتطوّر بشكل مفاجئ يصيب المشاهد بحالة من الذهول الإنساني المشبع بالمرارة والغبطة معاً، حين يُعيّن طبيبٌ نفسيّ في مشفى القرية ويزور بيت هذه العائلة المكونة من أب وأم اختفى عنهما ابنهما الوحيد منذ أكثر من عام، ويدور حوار جانبي بين الطبيب والأم.. أخرجت الأم من مخبأ في البيت جريدة عليها صورة ابنها ومكتوب تحت الصورة أن شابين اشتبكا مع بعضهما في عراك انتهى بموت أحدهما وفرار الآخر؛ وأن الصورة صورة القتيل. وبعد قليل، يدور حوار جانبي بين الطبيب والأب.. الأب قال للطبيب: أعرف أنها أخرجت لك الجريدة التي عليها صورة ابننا القتيل وأعرف أنها خائفة عليّ من الصدمة لو عرفتُ بذلك، وأعرف أنها مرتاحة نفسياً أن ابنها قتيل والقاتل مجهول وهارب وهذا يعني بالنسبة لها أن ابننا قد يكون عند الله بمنزلة الشهداء؛ ولكن ما لا تعرفه هي لأنني أخفيته عنها خوفاً عليها.. هو أنني كنتُ أول من قرأ الخبر في الجريدة وذهبتُ لإدارة الجريدة وقابلتُ الصحفي ناشر الخبر وتأكدتُ منه أن الصورة المنشورة كانت للقاتل وقد أخطأت الجريدة بكتابة عبارة (القتيل) تحت اسم ابننا.. القتيل هو مجهول الهوية أما ابننا فقاتل وهارب يا دكتور وأنا متأكد أنه قد أصبح من (مطاريد) الجبل وأتأمل أن ينزل ليلاً ليزورنا ومن أجل ذلك أنا أنتظره هناك كل ليلة لأمنعه من زيارة أمه حتى لا يفجعها بأنه قاتل وليس قتيلاً.. أمه مؤمنة وتخاف الله وإذا علمت بأن ابنها قتل إنساناً فستمسكه هي بيديها لتسلمه للحكومة تنفذ فيه أمر القضاء العادل بما يرضي الله، وستنقلب راحتها إلى آلام نفسية قاهرة.
يا الله.. دمّعت عيناي اليوم كما لم تدمعا من قبل، عندما صادفتُ تلفزيونياً ذلك الحوار في مشهد من فيلم اسمه (للحب قصة أخيرة) تأليف وإخراج رأفت الميهي عام 1986 وحين بحثت عن الفيلم عبر الإنترنت لمشاهدته كاملاً عرفتُ أشياء غريبة.. أن الفيلم تم منعه لأسباب سياسية(!) ما علاقة السياسة بمثل هذا المشهد الإنساني الضارب عمقاً في صميم العاطفة بأرقى تجلياتها حين تتجسد في أم وأب تجاه ابنهما، وتجاه بعضهما، وتجاه الله..؟
في الفيلم قصة أخرى عن التجنيد والحرب والمراوغة السياسية أفسدت أجمل ما فيه من روعة عاطفية خلاّقة حين تسببت في تدخل الرقابة (الفنية) وإصرارها على منع عرض الفيلم سينمائياً أو تلفزيونياً على الجمهور زمناً طويلاً.. وتلك إحدى جنايات السياسة الكثيرة جداً على العاطفة التي أصبحت نادرة جداً منذ زمن ليس بالقصير.
* * *
وبعد، فليس بوسعي سوى (الحسبنة).. وأن أختم بسؤالين أخيرين من نهاية مطلع قصيدة اسمها (كبار) كنتُ كتبتها قبل زمن ليس بالقصير أيضاً:
(عطفوا عليكَ،
فأنتَ كابن العطفِ
لم تكن استقامتكَ اعترافاً
بالذي هو أنت..
عطفوا عليكَ، ولم تزلْ
متورّطاً في المعتزلْ
وكأنّ جهلكَ بالذي تدري
يساوي جهلَ من داروكَ بكْ
فإلى متى تحمي انتصارات الذين تخافهم
بهزائمكْ؟
وإلى متى تحتاجُ غيركَ كاسباً
حتى يباركَ فيكَ كلَّ خسائركْ؟