د. إبراهيم بن محمد الشتوي
أفرد القدماء في مصنفاتهم أخبارًا طريفة، نسبوها إلى فئة من الناس، وصفوهم بالحمق، بل أفرد بعضهم كتبًا بعينها لهذه الأخبار، أشهرها كتاب ابن الجوزي «أخبار الحمقى والمغفلين». وبعيدًا عن التصنيفات التي رواها لهم فإن العناية بهذه الأخبار، وجمعها والتصنيف فيها، ليس أمرًا اعتياديًّا يمكن أن يمر دون البحث عما وراءه.
وإذا كان بعضهم يورد أقوالاً تدور حول الرغبة في التسلية، والترويح عن النفس تارة، وأخذ الموعظة، وشكر الله على النعمة بالسلامة مما أصابهم، فإن كثرة الكتب من جهة، وتقييدها في كتب تكون حافظة لها من الضياع، وإيرادها مع ما ينقل عن العلماء والحكماء والخلفاء، يجعل غرض إيرادها يتجاوز ما سلف، أو إفراد أبواب خاصة بها في كتب مخصصة لجد الأمر، كما فعل الجاحظ في «البيان والتبيين»، حين خص أخبار النوكى والحمقى بأبواب من الكتاب في الوقت الذي كان الأصل فيه البحث في البيان والبلاغة، وجمع أقوال البلغاء والفصحاء من الخطباء والخلفاء. بيد أن أبا عثمان لم يذكر أسبابًا خاصة لإيراد هذه الأخبار كالتي أوردها ابن الجوزي أو النيسابوري، وإنما بوصفها من الأخبار التي تستحق التقييد، والجمع، وقد تكون تشتمل على الحكمة والعظة.
وإلى هذا الجمع فقد عنوا أيضًا بالبحث عن «الحمق» نفسه، بوصفه موضوعًا للدرس، فبحثوا في تعريفه، وأسبابه، وفي هيئة الأحمق، وما يصبح به الأحمق أحمق، ما لم يكن موضوع بحث علمي أو فلسفي بل كان موضوع حديث بعض الخلفاء كالخبر الذي يرويه ابن الجوزي عن هشام بن عبد الملك حين كان يعدد صفات الأحمق.
على أن مفهوم «الأحمق» يتسع في ثقافتهم ليشمل الجاهل، والسفيه الطائش، والبليد غليظ الفهم، والغضوب الذي لا يملك نفسه، والأخرق الذي لا يتقن أن يصنع شيئًا.
وهو ما يخرج مفهوم «الحمق» على البعد السياسي للموضوع الذي يسعى بعض الباحثين إلى أن يسقط مفهوم «فوكو» عليه، حين اعتبر «الجنون» مفهومًا اجتماعيًّا مؤسساتيًّا، يقصد منه إخراج من لا يوافق المجتمع في نظرته إلى الأمور، وحكمه عليها، عندما لا يدرك المعنى وراء هذا الفعل، أو يسعى لأن يصف «المختلف» بالجنون حماية لكيانه الخاص.
خاصة حين نرى أن من الذين وصفوا بالحمق شعراء، وقضاة، وقادة، يأتي على رأسهم الحجاج بن يوسف، وكثير عزة، وأبوحية النميري.. فهؤلاء القوم لا يجدون مشكلة في التوافق مع المجتمع خاصة في موقع الحجاج الذي عُرف عنه العناية بالعلم، وأهله، وتولى إدارة جزء كبير من الدولة. وهو ما يبعث على تأكيد السؤال: كيف يوصف مثل هؤلاء بالحمق، وينقل ما يقولون بوصفه فعلاً أحمق، خاصة أننا قد نعيد النظر في هذه الأفعال، فنجدها لا تتصل بالحمق بسبب كبير، وربما يكون نعتها بالحمق متصلاً بالسياق الذي وردت فيه؟ ففي حكاية مروية عن أبي الأصبع بن ربعي أنه قيل له: أما تسمع بالعدو وما يصنعون في البحر، فلِمَ لا تخرج إلى قتال العدو؟ قال: أنا لا أعرفهم ولا يعرفونني، فكيف صاروا لي أعداء (البيان والتبيين:4/19).
فأنا - شخصيًّا - لا أعلم وجه الظرافة هنا التي جعلت الجاحظ يورد هذا الخبر تحت باب «النوكى والموسوسين والجفاة والأغبياء»، فقد يكون على أنه «أحمق» لا يرجى منه خير في مدافعة العدو، ويظن أنه لا بد أن يعرفهم حتى تكون بينه وبينهم عداوة، وهذا من غلظ الطبع.
في حين أن جوابه صحيح من بعض الوجوه؛ فهو لا يعادي من لا يعرف، وهذا يدل على اعتداده بنفسه أولاً حيث يرى أنه أهل لعداوة هؤلاء القوم، ومصادقتهم، أو لأنه يرى في حديثهم تهكمًا وسخرية به؛ لأنهم يعلمون أنه ليس أهلاً للقتال، فأراد أن يرد عليهم بمثل ما حدثوه به.
ومثل هذا الخبر الذي رواه عن الوليد بن القعقاع أمير الشام، حيث كان يستسقي في كل خطبه ولو كان في الشعرى (أي في الصيف)، فقام إليه شيخ وقال: إذاً تفسد القطاني.
ولا يبدو أن الظرف في جواب الشيخ الحمصي لأنه بعد ذلك أورد خبرًا آخر عن رجل كان يقول حين يأوي إلى فراشه: اللهم علينا ولا حوالينا»، مما يدل على أن الاستسقاء في كل وقت قد يكون مدعاة إلى الهلاك كما جاء في كلام الشيخ الحمصي الذي لم يدر بخلده أن نزول المطر عند الأمير أنفس من القطاني الذي تؤخذ لها الحيطة عند نزول القطر المتتابع.
وهذه الأخبار لا تعد في الحمق بناء على اختلاف تقدير المعنى بين القائل والمتلقي، منطلقًا من اختلاف موقف كل واحد منهما، وتصوره.