سهام القحطاني
إن علاقة السياسة بالإعلام هي علاقة ضاربة في جذور التاريخ وإن اختلفت الأسماء والتوصيفات والمصادر، وكثير من الأحيان يسهم الإعلام في صناعة قوة النظام السياسي وصلاحيته، ولذلك يحرص كل نظام سياسي من إنشاء أذرع إعلامية لتصبح لسانه وصوته وعينيه، تلك الأذرع بلا شك خلقت من الإعلام «أحادية التوجه» و»الرأي وذات الرأي»، وهذا المسار صنع من الإعلام وصيًا سياسيًا على المتلقي.
أنشأت الثورة الفضائية-ما بعد الحداثة- لوسائل الإعلام وتحول العالم إلى قرية واحدة، مفاهيمًا جديدة لكل ما هو قديم ومنها مفهوم «السياسة».
فقد تحول مفهوم السياسة بفضل تلك الثورة الإعلامية من مستوى «نخبوي» إلى مستوى «شعبي» ومن دائرة «المحذور» إلى دائرة «التداول»، ومن دائرة «الغرف المغلقة» إلى فضاء الرأي العام.
قبل الانفتاح الفضائي كانت «السياسة» من المحرمات على مستوى التناول الشعبي بل وعلى الإبداع والفكر، وقد تجد أسبابًا عدة لذلك التحريم، أغلبها ما أنزال الله بها من سلطان وخاصة في الدول النامية التي تتصف أغلب أنظمتها السياسية بالديكتاتورية.
وبعد ثورة القنوات الفضائية ودخول القنوات الإخبارية مجال المنافسة السياسية، تغيرت رؤية كل من «الأنظمة السياسية» والذهنية الشعبية «لتجريم الحديث السياسي»؛ لسببين منهما ما يتعلق بالذهنية الشعبية التي اكتشفت أن السياسة مرتبطة بحياة الشعوب وتقلباتها المعيشية والأمنية، مع توفر وسائط الخدمات الإخبارية ومرفقاتها وهو ما جعل الحديث السياسي ينتقل من الغرف المغلقة إلى المقاهي الشعبية والمؤتمرات الثقافية. أما السبب المتعلق بالأنظمة السياسية فقد أدركت أن «مسألة التحريم والتجريم» لأي تناول شعبي لحديث سياسي أو مناقشة وضع سياسي لم يعدّ ممكنًا في ضوء تعدد القنوات الإخبارية المتخصصة في السياسية وتعدد مصادر الخبر والتحليل التي لا يستطيع أي نظام سياسي منع مواطنيه من مشاهدتها أو متابعتها في أي مكان وعبر أي وسيط، لذا كان على تلك الأنظمة السياسية أن تغير قناعاتها في هذا المجال، حتى تتواكب مع التحول الثقافي للسياسة ولتحمي نفسها من أي أنظمة سياسية متربصة بها أو معارضة تقصد فتنة سياسية في المجتمع، من خلال تقديم خدمة التثقيف السياسي للذهنية الشعبية، لأن تلك الذهنية هي ظهير مدافع للأنظمة، وهو ما دفع الأنظمة السياسية إلى فتح مجال ممكن من «الحرية السياسية» للذهنية الشعبية لمناقشة الطوارئ السياسية ولكن بقيادة أذرعها الإعلامية التي توفر حدًّا آمنًا وسقفًا معلومًا لحماية تلك الحرية السياسية من الوقوع في أي فتنة سياسية أو مؤامرات سياسية.
كما تشاركت تلك الأنظمة السياسية مع رأسمال الخاص في إنشاء قنوات إخبارية سياسية ممثلة لأنظمتها ومدافعة عنها، وهذا المسار الذي اتخذته كل الأنظمة جعلت القنوات الإخبارية السياسية باتجاهات السياسية والطائفية تدخل حلبة الصراع بالوكالة عن الأنظمة، والفائز في نهاية المطاف للأقوى على الصراخ والكذب.
وهو ما أدخل القنوات الفضائية الإخبارية في لعبة السياسة بل أصبحت قلب تلك اللعبة التي تتحرك وفق بوصلتها بعض الأنظمة السياسية، وتحوّلها أحيانًا إلى خطر يهدد غيرها من الأنظمة السياسية في ظل وجود «طبقة مرتزقة من الإعلاميين» لا يؤمنون بأي ميثاق شرف أو أخلاق.
تعتمد أسياسيات النظرية الإعلامية الجماهيرية، على ثلاثة مرتكزات هي؛ سيكولوجية المتلقي، استراتيجية الجذب، صناعة الرأي العام، وهذه الصناعة بدورها تعتمد على خمسة معطيات هي: الصورة والمعلومة والحدث والواقع والحقيقة.
وتختلف حركة تلك المرتكزات وفق الطبيعة السكانية الموجهة إليها تلك الصناعة، فنسبة الأمية أو التعليم، الفقر أو الثراء، الأحادية أو التعددية، كل تلك الخصائص بلا شك تؤثر في محتوى ما يُقدم من صناعة الإعلام.
وخطورة هذه الصناعة أنها أصبحت تتحكم في بناء توجهات الرأي العام لأي مجتمع بسبب تحولها إلى مصدر بل أهم مصدر من مصادر الثقافة الشعبية.
ومع التوسع الفضائي التلفزيوني ظهرت القنوات الإخبارية التي تتغذى وتنمو على «الأحداث السياسية» والصراعات السياسية وحينًا إثارة الفتن السياسية بين الدول وبعضها البعض، بل وصل الأمر أن أي نظام سياسي يريد الانتقام من نظام سياسي آخر كل ما عليه أن يعطي الأمر لقناته لترويج الأكاذيب، حتى تشوه ذلك النظام، وبذلك تحولت تلك القنوات إلى وسيلة انتقام من الأنظمة السياسية المعارضة لسياساتها.
وتعتبر القنوات الإخبارية أنجح القنوات الفضائية جماهيريا وذلك بفضل ما تميزت به من خصائص قصد صانعوها في ظاهرها جاذبية جماهيرية وفي الباطن تشكيك مواطني كل مجتمع بأنظمتهم السياسية وتحريضهم عليها، وأهم تلك الخصائص.
*صناعة «إستراتيجية القيمة» للقناة من خلال «شعار» ممثل لتلك القيمة مثل «الرأي والرأي الآخر» في قناة الجزيرة «أن تعرف أكثر» لقناة العربية.
فلا نجد قناة إخبارية إلا ولها «شعارة ممثل للقيمة التي تقصدها نهاية المطاف» ويتحول مع التقادم رمزا معادلاً لكينونتها،وذلك الرمز غالباً ما يكون العسل المدسوس بالسم.
*صناعة نجومية التابعين لها، تلك الصناعة التي حولت مقدمي البرامج الإخبارية إلى «نجوم» كنجوم الفن والغناء كما حولتهم إلى «علامة تجارية» تُسوق القناة برامجها من خلالهم، لإهام المتلقي بعلو نزاهتهم لكسب قناعة المتلقي بمصداقيتهم.
*تحويل الحدث والخبر إلى «قصة درامية مرئية» وقد أسهمت الصورة سواء الثابتة أو المتحركة في إضفاء حيوية الدراما تلك،وهذا التحويل يكمن في خطر «تشويه الحقائق» إذ إن الانجراف العاطفي للمتلقي قد يُغيّب عنه القدرة على صدقية وواقعية تحليل المعلومة المقدمة من خلال وجدانية تلك الدراما، وبذلك يغلب صوت الصراخ على صوت الحقيقة.
*تحويل القنوات الإخبارية إلى «استثمار سياسي» و»أجندة سياسية».
فكل قناة إخبارية هي حاملة «لأجندة سياسية» لمصلحة نظام سياسي أو معارضة سياسية أو طائفية، تسعى من خلال برامجها تنفيذ تلك الأجندة، وخطورة تلك الأجندة السياسية التي تروّج لها القنوات الإخبارية أنها تسعى إلى تحريض المتلقي على مجتمعه أو تشويه نظامه السياسي أو عدائيته، و حينا تسعى إلى صناعة إرهابي يهدد مجتمعه و الإنسانية جمعاء.
«إنه صراع الكلمات».