«إن بعض الظن إثم»، لم يقل كل الظن إثم. وتقول العرب «سوء الظن عصمة، وحسن الظن ورطة»، والقولان لا أصادق عليهما -العصمة والورطة- لأن فيهما تقديم على غيبي، ولا يتأتى لك أن تميل إلى أحدهما إلا بعد أن تسمع أو ترى أو تعاشر أو تخالط إلخ. ولا أحدثك هنا عن مسألة دينية، أو أشرع أمامك باب الشرع؛ بل صميم حديثي عن المجتمع وعن محيطك وبيئتك.
وفي كلا القولين حكمة إما بهذا أو ذاك، ولا أخفي الحدس. وأكرر لك هنا لا أتحدث عن مسألة كلامية أريد أن أوضحها لك بل أتحدث عن مسألة سيرك في الحياة ومعاشرتك لمن حولك، واهتمامي بك من هذا الباب لأن المسألة الإنسانية هي الثابتة على مدى التاريخ، فعلى التحولات التي تحدث دومًا الطرف الثابت فيه هو الإنسان، ومن هنا ينصب اهتمامي في كل المسائل التي أطرحها عليك هنا.
بالطبع عندما تقرأ قول الحكيم جل وعلا {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ}، فإن ذهنك سيذهب إلى الوهم كأنهم يتيهمون، وبالتالي كأنني أقول لك إن الظن قرين الوهم، وهذا القول ليس في الكلية بل في الجزئية.. وستجد إن بعض الظن إثم في الجزئية، فليس كل ظن إثم، فبعد أن تكتشف الشخص الذي أمامك وبدأت تظن أنه سيذهب إلى كذا وكذا فإنك تبني على قرائن تسيرك في هذا الظن ولا تبنيها على مسألة أو تصور أو تخيل. فالخيال خدّاع كما ذكرت في باب الكينونة.
وستقرأ قول الحق تبارك وتعالى {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ}، فالظن هنا بمعنى «يتوقعون» وليس «يتيهمون»، وهناك فرق بين التوقع والتوهم.
سبق وأن قلت لك إن الإثم ما حاك في نفسك، من هنا ستكتشف بعض هذا الظن الذي بدأتُ به هذا الباب، حيث إن ما ذهبت إليه نحو فلان فأصابك إحساس بضيق أو شعور بأنك ظلمته في داخلك فمعنى ذلك أنك ذهبت إلى بعض الظن. قطعاً لا أفسر لك على ما يذهب إليه الفقهاء أو المفسرون، بل أدعك أنت تكتشف بنفسك دون مؤثرات من الآخرين، لأنك متى حللت الأشياء واستنتجت النتائج بنفسك ستجد أنك أكثر قوة وتمتلك حجتك لأنك أنت صاحبها لا غيرك.
والظن ليس قطعياً ولا جازماً، فالحقيقة وحدها هي القطعية، ولهذا فإننا نقع في الظن على ما يشبه اليقين ونقع فيه بما يشبه الشك، ونقع في الإيجاب أو السلب.
ولو خيّرت بين حسن الظن وسوء الظن فاختر حسن الظن لأنك تريد صناعة الكون بالتي هي أحسن وليس بالتي هي أسوأ، فمتى ما سرت وأنت تحمل حسن الظن فلن يضيرك شيء ولست في ورطة كما تقول العرب بل أنت في حسد ممن يراك على هذا المنوال ولا تحيد عنه، ويريدك أن تنحرف عن سبيلك هذا كي يحقق مراده هو، ومراده هو السيطرة عليك. وحسن الظن لا يعني أن تكون ساذجاً ولكن يعني أن تسير بالقرائن التي توجهك نحو الاختيار الصحيح للذين أمامك.
ـ 2 ـ
لديك مسألة في غاية الخطورة وعليك أن تتصدى لها، وهي؛ إن تأطير العقل يعني حجبك، والرأي الظني الذاتي - كثيراً يحضر في الخطاب الديني - يؤطر العقل ويرى أنه محدود وعاجز عن إدراك الحقيقية ليست النهائية بل اللامتناهية، ويزعمون أن العقل هو مدعاة للشكوك والتصورات والتخيلات التي تنقض ما يُراد له.
إن الهدف من ذلك هو بقاؤك متواضعاً أمامهم لا تفكر ولا تُعمل العقل، فالعقل ليس متواضعاً في الكون، إذ إن الكون كله مهيأ لك أنت، أي أن عقلك سيجول فيه أبعد مما يجول الكون حولك. ولا أريدك هنا أن تصطف إلى جوار هيجل في كل ما ذهب إليه بل أن تأخذ ما تستطيع منه للذهاب نحو الحقيقة، نحو الجوهر، وبإيمانك العميق تستطيع التغلب على كل الفلاسفة الذين يتصارعون من أجل الحقيقة، ووهم الظنيون والشكيون والانفعاليون والعقليون والجماليون وعلى تنوع مشاربهم. كأنني أرى الضوء الذي يؤشر أن الحقيقة تكمن في قلبك، ولا تعتمد على الظنية، فمهما قالوا هي تقبع فيك أنت من دون تجريد.
والمسائل الظنية كثرت بعد هيجل حتى وصلنا إلى «نهاية التاريخ»، وفوكوياما الذي يرى أن المسألة توقفت عند قطب واحد، والفكر لا يمكن له أن يقف عند قطب واحد، وإن توقف فمعنى ذلك أنك أنت مُلغى ويوضع عليك علامة (X)، وبهذا تكون تابعاً وهذا هو المُراد لك من الفكر الفوكويامي ومن سار على منواله، وهي أي فكرة «نهاية التاريخ» فكرة ظنية ارتبطت بمعطيات سياسية أن العالم بات مكشوفاً لقوة واحدة فقط، والصحيح أن العقل ليس مكشوفاً لأحد، ففي لحظة سقوط تفاحة جديدة قد تنسف هذه الفكرة المبنية على اتجاه سياسي فقط، دون قياس للمجتمعات وللعلوم عقليها ونقليها.
والظنيون هم الغالب يقول تبارك وتعالى {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ}. ولهذا فإن الظن يغيِّب العقل وهو ما لا تريده لنفسك.
- د . محمد الغامدي