الوظيفة العامة في درجاتها العليا، تعد شكلا من أشكال النجومية التي يحياها البعض فترة من الزمن ،هذا النوع من النجوم يتمحور حول الوظيفة ومسؤولياتها ومتطلباتها ،يجعلها إزاره ورداءه ،منها يبدأ حضوره و إليها ينتهي.
في خضم مسؤولياته الكثيرة، ينسى أهله وأقاربه، يتناسى أصدقائه، ويبدأ في نسج علاقات اجتماعية جديدة تتيح له الصعود أكثر وأكثر في سلم تلك الوظيفة .
ومع الزمن يتجلى له النجاح وبعد فترة يبدأ قطف ثماره حضورا وامتيازات ،من راتب وسيارة وإصدار أوامر للمستضعفين يراهم مجرد زيادات بسيطة وجدت لتخدم حضوره وتساهم في تحقيق آماله وأمنياته.
ينعزل عن مجتمعه القديم وأناسه، ويرى فيهم بؤسا ورجعيةإالى الوراء، قد تسلبه مركزه ووهجه وحضوره الاجتماعي ،هذه الحالة قد تتطور عند البعض،فيبدأ بإزالة أشياء من ذكرياته القديمة، لأن سعة عقله التخزينية وقبلها متطلبات الحياة الجديدة تتطلب صورا وذكريات أكثر عصرية، ذكريات تجعله يعيش حاضره بماض يتماهى ويتفق مع الصورة الزاهية لحياته اليوم، فالقرية مثلا لم تعد مكانا مناسبا لتنطلق منه ذكرياته لزملاء المهنة والمنافسين فيها، والبقعة القصية من تلك الجغرافيا المديدة لا تصلح أن تكون منطلقا لأي قصة نجاح يعيشها اليوم .
باختصار هذا النجم الهلامي يحاول دائما الانعتاق من ماضيه ،وشهوده من إنسان وحجر وسهل وجبل .
وفي خضم بحثه عن ذاته ونجاحاتها المتكررة وآماله المرتقبة، يصعقه نبأ خطير، نبأ كالموت ،هو التقاعد، فهو نهاية حياة وبداية حياة، فيها العودة إلى بعث جديد ،بذكرى قديمة وكشف حساب يقرأه الآخرون كل ومساحة حضوره في هذا الكشف، بعضهم يستحضر الذكريات القديمة ،بحلوها ومرها ،وبعضهم يبدأ في صياغة مسلسلات العتب واللوم ،كون هذا النجم لم يساعده أو يمد يده إليه، والأخطر من كل هؤلاء هو من يتشفى بهذا النجم ،ويحتفل مع المبغضين بهذه النهاية التي سلبت هذا النجم كل رتبه ونياشينه وإعادته إلى المجتمع ألقابا وخبرات يسبقها كلمة السابق، وكأنها تعني المنتهية صلاحيته وصلاحياته .
حالة من الهم والغم تنتاب هذا النجم ،فمرحلة التقاعد تصيبه بالاكتئاب وتورثه مزيدا من العدوانية والألم والقهر تجاه أناس تخطوه وسبقوه إلى مركز كان وسيظل يُؤْمِن أنه الأولى والأجدر به .
يبدأ مرحلة جديدة فى حياته يحارب الفساد ويعلن براءته منه ومن أهله ،يزكي نفسه ويراها الأكثر قدرة على القيام بكل الواجبات التي تقاعس الآخرون عن أدائها .
هذا النجم الآفل يقتحم الإعلام الجديد، ويروج لنفسه ولقدراته وينسى أن الحياة لم ولن تتوقف على زواله وذهابه ،وأن ما يشعر به الآن ليس إلا متلازمة فقدان الأضواء وانحرافها عنه ،وأن المحورية التي يعيشها في داخله لا تعني الآخرين فهم يرونه مجرد رقم صغير لا يؤثر في معادلة ولا يزيد في مجموع .
النجومية التي تستمد وهجها من الوظيفة العامة ،خطيرة ونهاياتها مريرة،كونها في النهاية، تجرد الإنسان من كل أضواء الوظيفة ونياشينها وتعيده إلى المربع الأول -ربي كما خلقتني- البعض من هؤلاء يتصالح مع هذه المرحلة ويعيشها كمحطة أخيرة قبل الموت، والبعض الآخر يأتيه الموت وهو لا يزال يعيش تلك المرحلة بأفراحها وأحزانها بنجاحاتها وإخفاقاتها ،وهو في الحالين يعيش الغربة مع نفسه وأهله والمجتمع .
- علي المطوع