أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: العنصر الرابع الذي طرحه هيكل للتأمل: هو انحياز عبدالعزيز التلقائي الفطري في بعض الأحيان لقضايا الأمة؛ وفي مقدمتها فلسطين؛ فذلك جزأ كبير من شرعية الدور الذي قام به.
قال أبو عبدالرحمن: أما الفطرية فلا شك فيها؛ لأن عبدالعزيز من صميم العرب في الذروة، ولأنه وريث تاريخ عائدته للأمة، ولأنه تربية أحمد ابن حنبل، وأبي العباس ابن تيمية، ومحمد بن عبدالوهاب رحمهم الله؛ فلا فطرة له غير العروبة والإسلام، ونتائجهما من الوطنية، والحرص على أن تكون المعمورة كلها دار إسلام؛ وأما التلقائية فلا تصنع دولة ووحدة في شتات وتمزق من الخوف، والجهل، والمرض، والفقر، وخمول المجتمع، وانعدام الكوادر البشرية الفعالة؛ وإنما هذا العربي الذي يظن أنه في عباأته بدوي أمي: انطلق في الأشد، وتربع على عرش الوحدة كهلا؛ فكان كتلة من المواهب، والبصيرة، وفراسة المؤمن، والخبرة بعلل المجتمع وأدوائه، والوعي المحنك بالمتغيرات العالمية من حوله، والتحرك المنظم المدروس المخطط له الذي كشف عن دقة تنظيمه في منجزات شتى.. جمع الله في إهابه ما جمعه لكبراء القادة ذوي النيات الخيرة على مدار التاريخ.. وأما انحياز عبدالعزيز لقضايا العرب في بعض الأحيان: فلا يمثل أي جزء (ودعك من كونه كبيرا!) من شرعية الدور الذي قام به؛ بل الذي قام به أم الشرعيات على فرض أنه ليس للعرب أي قضية تنتظر عبدالعزيز، وعلى فرض أنه عاجز عن المساهمة في أي دور عربي ينتظره.. كلا؛ بل إن ما هو فيه هو المساهمة الكبرى لخدمة العرب بإيجاد دولة وأمة ونظام في رقعة لا يعرف أهلها معنى الرعوية، ومن ثم أهل هذه الرقعة الشاسعة وأهلها الممزقين؛ وذلك بعد تنمية طبيعية وبشرية؛ لكي تتحمل أعباء الهموم العربية والإسلامية.. هكذا كان الأمر في رؤية هيكل.
قال أبو عبدالرحمن: بأي توثيق أو برهان دل على أن عبدالعزيز دعي في أي لحظة للمشاركة في هموم واحدة فلم يستجب؛ ليكون انحيازه في بعض الأحيان؟.. إن عبدالعزيز أخذ زمام المبادرة (لا مجرد الاستجابة) في مؤتمراته الإسلامية، وفي دعوته إلى التأهيل النفسي الفلسطيني بالدعم المالي والعسكري؛ لأنه يرى بقلب المؤمن ما يحاك من مؤامرة عالمية؛ وأول مظهر لها هو تجميع جيوش عربية لا تملك إرادتها، وإنما يقودها اللورد فلان تحت ظل العميل فلان!.. إن المستقبل بيد الله يصرفه كيف شاء، ولكنني أكرر القول: بأنه إذا كان قرار أي مؤتمر هو خال من دعوى الشخصيات، ومقر منافع الأفراد، ويجر المغانم لأناس دون آخرين، ويهمل المثل الأعلى (ألا وهو عز الأمة العربية، وائتلافها، وحفظ حقوق أبنائها): فإن هذا أمر لا يمكن لعربي أن يتأخر؛ بل يبادر إلى الحضور؛ ليفضح ويبطل كيد الكائدين، وهذا من شيم العرب في جاهليتهم وإسلامهم.. لقد قال عبدالعزيز: ((مع ضعفي (ولا حول لي ولا قوة إلا بالله): إذا دعيت إلى أمر فيه عز العرب، ويراد به خير العرب، ووحدتهم، وكانت الدعوة إلى ذلك خالصة لوجه الله: فإني سأكون كما هي عادتي فردا من أفراد الأمة العربية، ولا أهمية عندي للرتب والمناصب الجالبة للغرور، وأقدم كل معونة ممكنة في هذا السبيل» [مجلة الفتح/ العدد 312 ص 7 في 28-5-1351هـ].. إن دور عبدالعزيز: بناء دولة، وإقامة نظام، ثم قيادة الدولة والنظام إلى الإقليم والأمة، ثم وضع الدولة والنظام على أحسن أحوال إصلاحات القمم المعاصرة. قال أبو عبدالرحمن: إذن أين هي حرارة قلم هيكل أمام هذا الحدث الجلل الباهر النادر غير العادي الذي خاض من أجله عبدالعزيز جهادا عسكريا وفكريا خلال نصف قرن؟!.. أبهذا الإيجاز الجاف المبتسر تبارك مواهب القادة الخيرين؟!.. فإن قال قائل (أي كما يفترض الهيكل): «إن دور عبدالعزيز ألهمه الطموح الشخصي، وإن العصبية كانت وقوده، وإن السيف كان أداته، وإن قوى دولية كانت تتابعه»: فالجواب (أي جواب الهيكل): «إن تلك تفاصيل؛ لأن أي دور يستمد قيمته قبل أي شيئ، وبعد كل شيئ من الفكرة، وقوة الفعل الكامنة فيها [يعني قوة الفعل الكامنة في الفكرة، وهو ما يسمى الوجود بالقوة].. وكان جوهر الفكرة في دور الملك عبدالعزيز: أن الفضاء الجغرافي التاريخي، والمطلب الإنساني الحضاري في شبه الجزيرة وفي مطلع القرن العشرين، والداعي الإستراتيجي المحلي والإقليمي والعالمي.. جمعها: تلح على وجود دولة ونظام؛ وقد قام الرجل بهذه المهمة [يعني عبدالعزيز]، وأدار مراحلها على اختلاف الظروف، ودقة التوازنات في اقتدار يشهد بجسارة عقل وأعصاب»!!.. هذا كل ما في جعبة الهيكل؛ فإلى لقاء في الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى لاستكمال محاكمة هذه المراوغات الهيكلية، وإلى لقاء في السبت القادم إن شاء الله تعالى، والله المستعان.