عبدالعزيز السماري
نسمع من وقت إلى آخر بمطالبات لفصل الدين عن السياسة، ويقابلها في الجانب الآخر دعاوى لعدم فصلهما، وتحول الجدل مع مرور الوقت إلى صراع لا يتوقف، ومزايدات لا تتراجع، ونمر بالفعل في أزمة ثقافية وأمنية، تتداخل فيها مختلف دوائر العنف والعنف المضاد في المجتمع العربي، فدعاة الحل الإسلاموي يطالبون بتولي سلطة فقهية المرجعية العليا في سلطات بعض الدول، وآخرون يصارعون من أجل عزل دعاة الحل الديني خوفاً من استبدادهم بالأمر والرأي.
وصلت الأزمة الحالية إلى مرحلة متقدمة في بعض الدول العربية، وصارت مدخلاً للاستبداد من الطرف الآخر في بعض الدول بعد إعلان مواجهة أسلمة الخطاب السياسي، ولن ينتهي الأمر بين ليلة وضحاها، فالصراع لن يتوقف إلا بعد تجاوز أزمات الثقة والمسلمات بين الطرفين، وقد يأخذ الأمر دهراً وأجيالاً متعاقبة قبل الوصول إلى حالة الهدوء والاستقرار والأمن والرخاء في جنوب المتوسط..
نحتاج في هذه المرحلة إلى حوار ثقافي هادئ في هذه المسألة، حول مسألة موقف الدين من السياسة، وهل توجد نصوص تحدد أركان السياسة ومبادئها وفصولها ومواقفها، أم أنها تخضع لرغبات الإنسان ومصالحه المتعددة، ولو استعرضنا تاريخ المسلمين منذ زمن السقيفة إلى اليوم لربما اتضحت الصورة، فالمسألة كانت ومازالت يحددها صراع الفئات والقوى والمصالح المتعددة في المجتمع.
والسياسة في معانيها الأولية تعني سياسة مصالح الفئات المختلفة في المجتمع، ولو استعرضنا مسميات وأهداف الأحزاب السياسية في الغرب لاكتشفنا أن كل منها يمثل مصالح وأيدولوجيات مختلفة، لكنها ملتزمة بالمصالح الكبرى للدولة، وخاضعة لقانون الانتخاب والعمل المدني، وما هو يعني استحالة وجود خطاب سياسي مثالي في الحياة، فالسياسة تعني برمتها سياسة المصالح في المجتمع الديمقراطي، بينما تعني في دول الشرق سياسة الأمر الواقع..
من هذا المنطلق نستطيع فهم ما وراء الخطاب الديني في السياسة، وهل يمثل سياسة لمصالح فئات محددة، أم أنه وحي منزل من رب العالمين، في تاريخ المسلمين لا يوجد فقهاء في السياسة، والفقهاء الأوائل فصلوا في أحكام الحيض وزكاة المواشي أكثر بكثير من تناول قضايا السياسة، واختصروا الفقه الشرعي السياسي في فصل واحد، وهو الطاعة لولي الأمر.
وفي ذلك دليل أن السياسة في مداولاتها الواقعية تقوم على المصالح، لكن الغائب في المجتمعات الشرقية الإسلامية وجود آليات متفق عليها لإدارتها بين فئات المجتمع المتنافسة في مجال إدارة المجتمع، وفي غياب مثل هذه الإجراءات والقوانين يتحول الأمر إلى صراع دموي وعنف متبادل من أجل فرض مصلحة ضد أخرى.
لهذا لا أستغرب ارتفاع أصوات بعض الفئات الدينية المتطرفة من خلال إصدار فتاوى وأحكام لا أساس لها شرعياً، فذهنية التحريم والميل نحو التشدد المخالف لسماحة الدين وقواعده الشرعية هو في صلبه خطاب سياسي، أي يمثل مصالح جماعات محافظة جداً في المجتمع، لا تؤمن بتعدد الحريات واختلاف الآراء، وبالتالي تعمل في السياسة من أجل فرض رؤيتها المتطرفة للحياة على الآخرين، ولهذا هم يزايدون في كل أمر جديد.
من خلال هذه الرؤية علينا أن ندرك جميعاً أن الصراع الحالي بين دعاة التطرف والمحافظة المتشددة وبين الذين يرغبون في فرض الاختلاف والتعدد من أجل تغيير أنماط الحياة المتكلسة في المجتمع هو صراع مصالح بشرية، وليس صراعاً بين الخير والشر..
وإذا أردنا محاولة فهم ما يجري، علينا أن نبحث عن أخلاقيات العمل المجتمعي وندقق في وسائل جمع الثروات الطائلة من خلال الخطاب المسيس، وعن تلك المواقف التبريرية من قبل أتباعهم عند ارتكاب رموزهم لمخالفات شرعية لا يختلف عليها اثنان، ولكنهم مع ذلك يجدون لها مخرجاً من خلال مقولة الغاية تبرر الوسيلة.