عبدالوهاب الفايز
ثمة انطباع يتكرس وهو: إذا رأيت صندوق النقد الدولي ومعه شركات الاستشارات العالمية تدخل بلداً لتقدم الاستشارات والنصائح، وتجد من يستمتع بها بدون روية وخبرة وتبصر، أو ربما لأجل تمرير مصالح خاصة.. فتوقع المشكلات الكبرى وربما الكوارث، وهنا لا نتجاوز الواقع أو نضخم الأمور، فأول من ينتقد الصندوق ويحذر من نظرته الضيقة للأمور وبعده عن الواقع هم العاملون السابقون في الصندوق، أو الخبراء والذين عملوا في البنك الدولي.
من هذا المنطلق أصبح تدخل الصندوق في سياسات الدول وشؤونها الداخلية عبر النصائح، أو عبر التقارير التي تتناول أداء الاقتصاد، أو عبر الشروط مقابل الحصول على التمويل والمساعدات، هذه أصبحت تثير الشك والخوف والريبة في كل ما يصدر عن الصندوق، ومن هذه الصورة الدهنية استقبلت مضامين كلمة (كرستين لاجارد) مديرة صندوق النقد الدولي أمام منتدى المالية العامة في الدول العربية الذي انعقد في دبي الأسبوع الماضي، حيث دعت الدول العربية إلى (اتخاذ مزيد من التدابير لتخطي مشكلاتها الاقتصادية والاجتماعية الكبيرة)، ومما آثار الانزعاج هو دعوتها الى خفض الدعم الحكومي، وأيضاً دعت إلى خفض (رواتب القطاع العام)، وهذا كان محور التخوف.
هذه المخاوف من التصريحات لها مبرر آخر يتعلق في سوق العمل حيث ذكرت لاجارد أن البطالة بين الشباب هي الأعلى في العالم حيث إن معدلها هو 25 في المائة وتتعدى 30 في المائة في تسع دول.
ونبهت إلى أن (أكثر من 27 مليون شاب طامح سينضمون إلى سوق العمل في السنوات الخمس القادمة)، وهذا وضع يدعو إلى التريث في التوسع في الضرائب أو خفض القطاع العام، لأن هذا يعني المزيد من البطالة وبالتالي تهيئة الفرص لنمو المشكلات الكبرى.
في دول الخليج، بل ربما في كل اقتصاديات الدول العربية، يظل دور القطاع العام في الاقتصاد مهماً ولن يتراجع في المدى القريب حتى تستقر السياسات الاقتصادية القادرة على تنمية الموارد المالية للدولة وتوسيع فرص العمل بدون الإخلال بحالة الاستقرار والسلام الاجتماعي، والصندوق غالبا يُغيب هذه الاعتبارات ويركز على ضرورة إحداث التوازن المالي في الميزانية العامة عبر التوسع في السياسات الضريبة وخفض الدعم الحكومي للسلع الأساسية.
هذه السياسة للصندوق المستهدفة لضبط الأمور المالية هي التي تجعله يتحفظ على أداء الموظف في القطاع العام، وبالتالي يراها ببعدها المالي الصرف. إنتاجية الموظف في القطاع العام لها أثرها في مجال مهم للاقتصاد وهو المجال الإنساني والاجتماعي وهذه لا يمكن ضبطها مالياً حتى تدخل في الاعتبارات والقوائم المالية للدولة. الموظف الذي نرى إنتاجيته منخفضة هو بمثابة (حاضنة اجتماعية)، فهو رب أسرة وقد يكون لديه أبناء متفوقين في دراستهم ومستقرين نفسياً واجتماعياً لكون الأب مستقراً وظيفياً ولديه الدخل الثابت. بهذا التصور هو منتج وله (قيمة مضافة) في الاقتصاد، وقد يعود ضعف إنتاجيته في وظيفته إلى ظروف بيئة العمل البليدة في استثمار وتمكين الموارد البشرية، فالعيب الأساسي ليس في الموظف.
ايضاً التساهل في دول الخليج حول أداء الموظفين ربما الهدف منه استخدام القطاع العام كأداة لتوزيع الثروة الوطنية، وهذه حالة ملازمة للاقتصادات الريعية. طبعاً هذه قد لا تكون حلاً إيجابياً إذا استمر تراجع إيرادات الموارد الطبيعية وأصبح من الضروري رفع معدلات إنتاج الفرد في الاقتصاد الوطني. لا أحد يدرك ضرورة الكفاءة لإدارة الاقتصاد يقبل تضخم القطاع العام وقلة إنتاجيته، ونسبة رواتب القطاع العام في دول المجلس تقارب 12 في المائة من إجمالي الناتج المحلي، وهذه نسبة مرتفعة تتطلب الحلول المدروسة التي تطبق على المدى البعيد.
الحلول السريعة التي ينادي بها الصندوق وتقترحها الشركات الاستشارية العالمية خطيرة جداً، ونحمد الله أن القيادات مدركة لخطورة مثل هذه النصائح على السلام الاجتماعي والاستقرار السياسي، ونحمدالله أيضاً أننا لا نحتاج قروض الصندوق ومساعداته المذلة. تدخل الصندوق في السياسات الاقتصادية للدول التي تمر بأزمات تنتهي بمشكلات متعددة. هناك من يرى أن حلول الصندوق للمشكلات أربكت العالم الثالث، والآلية التي يتبعها الصندوق عادة هي إصدار توقعات سلبية، والتحذير من مخاطر قادمة، ثم يصدر توصياته التي تركز على النواحي المالية والاقتصادية، بالذات التي تهيئ الأجواء النفسية لإخراج الثروات من الاقتصاد الوطني، وتربك الحكومات!
وعموماً، ما يصدر عن الصندوق ليس كله شراً وضاراً، لديهم بعض الآراء والتوصيات التي يفترض الإنصات لها بذكاء وحذر، وتدرج ضمن مدخلات أخرى حين اتخاذ القرارات.