د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
جاهل من لا يفتخر بأصله ولا يعرفه ولا يتذكر دائمًا أن أصله من تراب وأن البشرية جمعاء تنتمي لقبيلة واحدة هي قبيلة الإنسانية وأن البشر، كما تذكرنا جميع الكتب السماوية، أبناء لآدم. فالإنسان الذي لا يدرك أن الآخرين بشر مثله ينتمون لقبيلته البشرية الواسعة إنسان فاقد لأهم سمات البشر وهي الإنسانية. وأبشع دروس التاريخ التي يتنصل ويخجل منها جميع أبناء وأحفاد ممن مارسوها دروس التاريخ العنصرية. العنصرية بكافة أشكالها وضد كائن من كان. وكلما ارتفع معيار الإنسانية لدى الفرد بالعلم والثقافة أدرك أنه بشر كسائر البشر، وكلما ارتفع مستوى الجهل لديه بحث عن التعويض بالتفاخر والتعالي على الآخرين. والإنسان كامل الإدراك يحترم أيضًا الكائنات الأخرى غير البشرية ويقدر الشجر والحجر، فلا يقدم على ما فيه ضرر لما حوله.
وقفنا غير مصدقين أننا خلصنا من صراع الديكة الذي أصم آذان المجتمع، صراع «بنو ليبرال والظلاميين». تخلصنا من وصم بعض الناس بدون سابقة معرفة أو دليل بأنهم منحلون ولا أخلاق لهم، والحكم على آخرين لمجرد مظهرهم بالظلامية، وعصور الظلامية، كما يذكر التاريخ، عصور بؤس وجهل ووحشية بنيت على خرافات تبرأ منها جميع البشر بمجرد إدراك أهداف من تاجروا بها. عمم البعض الأحكام من المظهر فقط قبل أن يبادروهم بتحية الإسلام أو يعرفوا ما يؤمنون به، وأغرق المجتمع في جدل عقيم لا طائل منه.
البعض اليوم للأسف أثبت أنه مدمن للشقاق والخلاف، يحن لأيام الجهل والضلال والتشاحن، فعمل على إذكاء خلافات من نوع جديد تستند على التفاخر القبلي المقيت، هياط متواضع يبحث عن مكانة فردية داخل القبيلة ذاتها. فنادرًا ما نسمع عن شيخ قبيلة أو أمير شمل «يهايط» أو يسيء لإنسان آخر ناهيك عن قبيلة أخرى. والإمارة، والشيخة تعني إمارة الأخلاق وشيخة التواضع. فقبائلنا اليوم متصاهرة ومنصهرة في امتداد وطني موحد «دق خشم» الفرقة، وعلينا بأي ثمن الحفاظ عليه. والقبيلة بدون أدنى شك مكون اجتماعي مهم له جوانب مضيئة في تاريخنا ليس من بينها بالطبع الهياط الفاضي. ونقول «لا» بأوضح عبارة لمن يريد بعث الفرقة مرة أخرى في المجتمع أو يحاول دفن قيمة الانتماء للوطن بالتفاخر بمجد قبيلة لم يكن له أي دور فيه ويتناسى أن الله تعالى خلقنا من ذكر وأنثى وجعلنا شعوباً وقبائل لنتعارف وليس لنتناحر، وأكرمنا عند الله أتقانا.
واليوم، يخالط المجتمع أيضًا ما يخالطه من «تعنصر» جديد بشع يشكك بأصول مواطنين سعوديين باستغلال المطالبة بمنح الجنسية، أو بالأصح تصحيح وضع أبناء الأمهات السعوديات بمنحهم جنسية مستحقة. ولتفهم وضع أبناء الأمهات السعوديات يلزمنا فقط أن نتخيل أنفسنا مكانهم، ولدنا ونشأنا في وطن لا نعرف الانتماء لغيره، نقيم فيه، ونكن الولاء الوحيد له، ولا نملك جنسيته وهناك من يعتقد أن حصولنا على الجنسية فيه ينتقص من جنسيته، ولا يدرك أنه لا توجد أمة في العالم اليوم، بما في ذلك أكثر قبائل الأمازون انعزالاً لم تخالطها أقوام أخرى، فشعوب العالم وقبائله، كما ذكرنا القرآن الكريم، تعارفت وتخالطت، ونحن لسنا لا استثناءً من ذلك ولا أفضل من غيرنا من الأمم.
والبعض يتجاهل أو يجهل أن كثيرًا من السعوديين الذين لا ينتمون لجذور قبلية سعودية محلية لهم امتدادات قبلية مشرفة في بلدانهم الأصلية، وهم أصحاب فروسية وكرم تعادل أو ربما تفوق فروسية العرب. وهم أبناء جاليات وفدت إلى المملكة قبل سنين الوفرة والرخاء لجوار الحرم الشريف، أسهموا بشكل كبير، بما جلبوه من أموال في بناء الوطن وقت الحاجة، وشاركونا السراء والضراء. استقبل الملك فيصل -رحمه الله- الكثير من الهاربين من بلدهم إعجابًا منه ببسالتهم في مقاومة المد الشيوعي الذي استهدف ديننا الذي نتشارك فيه. فأسهموا في تمدين المناطق التي استوطنوها وقدموا لنا الكثير مما نفاخر به اليوم كتراث بما في ذلك طبقنا الوطني الكبسة وغيرها. وكيف ننسى أن أول وزير خارجية للمملكة عمر السقاف هو من وضع اللبنة الأولى للدبلوماسية المؤسسية السعودية التي خرجت أجيالاً لاحقة من الدبلوماسيين؟ وأن التجار اليمنيون الجنوبيون هم من أسهم في تأسيس التجارة، وهم من أسس أول بنك وطني لتنظيم أمور البلاد المالية هو البنك الأهلي؟ أو أن ننسى دور المعلم العربي الوافد من مصر أو الشام أو العراق في نشر التعليم ومحو الأمية المتحكمة آنذاك، أو دور الأطباء في مكافحة الأمراض المتفشية؟ هذا غيض من فيض، فما قدم لنا المهايطون غير التفاخر بانتمائهم القبلي؟ فما نفاخر به حقًا هو أننا شعب عرف عنه الوفاء والكرم، وعلينا الوفاء للجميع.