د. محمد عبدالله العوين
أسبوع واحد هو الفاصل بين عتمة وعتمة وفجيعة وفجيعة!
لملم د. عبد العزيز الزير شتات ستة عقود ونيف ثم مضى خفيفا لطيفا ملوحا بكف وداع لكل من لقاه وعرفه ولمن لم يلقه أو يعرفه، وما أن أطبقت ليالي أسبوع حالك حزين إلا وكان طيف آخر يعقد العزم على الرحيل قبل أن نصحو من صدمة الغياب الآنف، كان د. خالد الجديع يعيش حالة صمت وكأنه يدخل رويدا إلى عتبات الغياب الأبدي؛ ربما كان بغيابه القصير وهو حي يمهد لغياب طويل لا نعرف له اسما إلا بكلمة واحدة قاسية من ثلاثة حروف م و ت!
تتالت قصص رحيل مر، لوحوا بأيديهم مودعين، كأنهم لم يكونوا، كأنهم لم يتراكضوا إلى فضاء المدرجات، لم يقفوا متحدثين ساعات في مناقشة أو محاضرة أو مناظرة ليالي وأمسيات.
لا، لم يغيبوا هاهي أسماؤهم باقية منقوشة على غلاف كتاب، مدونة في ذاكرة باحثين، محفورة على عنوان مذكرة لا زالت تدور بين أيدي الطلاب.
قوافل الراحلين تترا، رحل الجسد وبقي المعني، رحلت المادة وبقيت الروح، رحل الهيكل وبقي الرحيق والعطر والحضور عبقا مهيمنا على المكان.
تتالت قوافل الراحلين على الذاكرة، أولئك الذين كانوا نبض حياة ودفق علم وشعل توقد ومنابر نور، عادت الذاكرة إلى قاعات ومكاتب وممرات الكلية في مبناها العتيق القديم بشارع الملك فيصل؛ فذاك علي الجندي أستاذ الأدب الجاهلي يجيب بصوت أشبه بالهمس على بعض طلابه وهم يلاحقونه بأسئلتهم بعد محاضرته عن معلقة طرفة بن العبد: لخولة أطلال ببرقة ثهمد تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد، ويتابعونه بشغف وهو يسير إلى الخلف بهدوء مبعدا إياهم عنه بيد مرتعشة أنهكها التقدم في السن، وذاك بدوي طبانة يهدر بصوته القوي في القاعة متحدثا عن مدارس النقد العربية القديمة عند عبد القاهر الجرجاني وابن سلام وابن رشيق، وذاك عبد الخالق عظيمة يقرأ بعنت ما يكتبه طلابه من تساؤلات في قواعد الصرف بنظارة سميكة مقعرة لثقل كبير في سمعه، وذاك سيد خليل أستاذ النحو الساخر خفيف الظل يتندر على بيت أحمد شوقي حين امتدح نهر بردى: سلام من صبا بردى أرق ودمع لا يكفكف يا دمشق، معاتبا شوقي، فبردى في رأي أستاذنا نهر صغير بائس لا يستحق كل ذلك الإطراء مقارنة بنهر النيل العظيم! وذاك محمد بن سعد بن حسين يمشي على مهل في صدر القاعة متحدثا عن الأدب السعودي في مراحل نشأته الأولى بزي أنيق مرتديا مشلحا بنيا متوافقا مع جزمة لامعة ومغطيا عينيه بنظارة عميقة السواد ومهذبا لحيته القصيرة التي تحتل أسفل ذقنه.
أين هم أولئك الأعلام الباذخون؟! لم يبق منهم إلا أطياف زائرة وآثار خالدة لا يمكن أن تغيب أو تنسى.
إنه الرحيل المر الذي يخطف على حين غرة من بين أيدينا من لم نكن نحسب أنه يوما سيغيب إلى الأبد.