اللواء الركن م. د. بندر بن عبدالله بن تركي آل سعود
أذكر أنه قبل عشرين يوماً تقريباً، تحديداً في يوم الاثنين 5-5-1439هـ، الموافق 22-1-2018م، بثَّت قناة الفتنة القطرية ما قالت إنه (فيلماً وثائقياً) عن جزيرتي تيران وصنافير السعوديتين على البحر الأحمر، تم إعداده بخبث شديد، بهدف دق إسفين الخلاف بين المصريين وبين قيادتهم من جهة، وبين السعوديين وبين قيادتهم من جهة أخرى؛ وأيضاً بين الشعبين الشقيقين السعودي والمصري وبين القيادتين في البلدين.
استفزَّني كم المغالطات الهائل الذي حفل به كأي مواطن سعودي يعتز بانتمائه لأطهر بقاع الأرض على الإطلاق، فسارعت في الحال، كما أفعل الآن، للتعليق عليه بمقال مقتضب، تحت عنوان مقالي هذا نفسه؛ مفنِّداً تلك الادعاءات الرخيصة التي أصبحت بضاعة كاسدة، ليس لها سوق في أوساط الأّمَّة اليوم، نُشِرَ بصحيفة أضواء الوطن الإلكترونية يوم الأربعاء 7-5-1439هـ، الموافق 24-1-2018م، كما نُشِرَ أيضاً بجريدة الجزيرة يوم الأحد 11-5-1439هـ، الموافق 28-1-2018م.
ومثلما استفزني (الفيلم الوثائقي) إيَّاه، يبدو أن تعليقي عليه في المقال المشار إليه، استفز قناة الفتنة القطرية، أو قُلْ أثار حفيظتها؛ فأعادت الكرة مرة، وأعدَّت يوم الاثنين 26-5-1439هـ، الموافق 12-2-2018م، في برنامجها نفسه (للقصة بقية) ما قالت إنه (فيلماً وثائقياً) أيضاً بعنوان (رياح التغيير)، خصصته هذه المرة للشأن السعودي فقط، تأكيداً على غيظها وحنقها، علَّها تشفي غليلها.. حشدت له مجموعة من شخصيات سعودية مواقفها معروفة للمهتمين بمتابعة الشأنين السياسي والإعلامي، غير إنها في الوقت نفسه مغمورة للسواد الأعظم من عامة الشعب؛ وحتى من يعرف تلك الشخصيات، سئم اليوم إفلاسها، وطرحها المستهلك، واجترارها ادعاءات مكشوفة، ومغالطات ممجوجة، كشف زيفها حتى طالب مرحلة الأساس بما لديه من ثقة أكيدة لا تتزعزع في قيادته، ويقين تام بمبادئ مجتمعه ومُثُلُه العليا وفضائله ومكارم أخلاقه، وإيمان راسخ بالفطرة بعقيدته ورسالة بلاده السَّامية العظيمة.
ويبدو أن قناة الفتنة أفرطت في التفاؤل هذه المرة بإمكانية نجاح خبثها وما قد يحدثه (فيلمها الوثائق) المزعوم هذا من صدمة للرأي العام هنا في أرض الرسالات ومهد الحضارات؛ فحشدت إلى جانب أولئك النَّفر السعوديين، مجموعة من الإخوة العرب، بعضهم معروف بعدائه السَّافر لنا، فأصبح ضيفاً دائماً على كل برامج قناة الفتنة التي تَلِغ في أعراض السعوديين ومبادئهم وأهدافهم ورسالتهم في الحياة صباح مساء؛ في حين إن بعضهم الآخر مجهول مغمور، ليس للسعوديين فحسب، بل حتى لأبناء الوطن الذي ينتمي إليه. وذهبت قناة الفتنة أبعد هذه المرة، فطعَّمت هذا الخليط العجيب الغريب بأحد الإخوة من باكستان للحديث عن الشأن السعودي؟! وعهدت بمهمة إنتاج (الفيلم الوثائقي) إيَّاه إلى (شركة الليث العربي للإنتاج).. كل هذا سعياً لضمان تحقيق الهدف المنشود بالقدح في أرض الحرمين الشريفين وقيادتها الرشيدة وشعبها الوفي النبيل، بعد أن استنفد منسوبوها ما لديهم من مخزون افتراءات ضدَّ بلادنا. لكن مع هذا الاجتهاد الخبيث كله، كان (الفيلم الوثائقي) هذه المرة باهتاً فارغاً من أي مضمون.. مجرد تبادل أدوار بين شخصياته في القدح والذم والافتراء والاتهام الذي لا يسنده أي أساس أو دليل، أو حتى حُجَّة ذكية (مفبركة)، يمكن أن تنطلي على عقل البعض فيصدقها.
لكن.. كَبُر مقتاً يا قناة الفتنة، إذ لم يعد خافياً على أحد، حتى الإنسان البسيط العادي، أن كل واحد من الشخصيات التي تم حشدها في (الفيلم الوثائقي) إضافة إلى ضيوفك في الأستديو، كان فقيراً فقراً مدقعاً في طرحه البالي، ينظر إلى المجهول علَّه يجد ما يقول ليوافق هواك في تحقيق غرضك من حشد كم هائل من الادعاءات والمغالطات والافتراءات الزائفة. فما اجتهدت معظم شخصيات البرنامج لتأكيده من ترهات استغلال أمريكا للسعودية وتمرير أسطورة (صفقة القرن) والتغريب وغيره من أكاذيب، سبق أن أكد بعض ضيوفك أنفسهم عكسه تماماً على قنوات أخرى؛ بل إن أحد ضيوف البرنامج أكد على قناة الـ(BBC) عربي، أن محمد بن سلمان هو الذي وظَّف الرئيس الأمريكي ترامب لخدمة قضايا السعودية، وليس العكس كما زعم بعضهم. وهذا موجود وموثَّق، يمكن الرجوع إليه. وهو قول حق أُريد به باطل، لكنه على كل حال هو ديدن قيادة هذه البلاد الطاهرة المباركة، الذي أقرَّه المؤسس الملك عبد العزيز آل سعود، الذي نجح كما لم ينجح أحد غيره في عهده في توظيف قوة بريطانيا والتناقض العالمي آنئذٍ لتنفيذ برنامجه في خدمة هذا الوطن العزيز الغالي، لضمان استمرار قافلة الخير القاصدة إلى الأبد إن شاء الله.
وبعد:
كم تمنيت أن تكون قناة الفتنة مصدراً للخبر الأكيد والمعلومة الصحيحة الموثَّقة ونافذة للثقافة والتنوير كما هي طبيعة مهمة أي وسيلة إعلامية أو صحفية مسؤولة تحترم نفسها قبل احترامها لجماهيرها. لكن قبل هذا، أجدني مشفقاً بحق على كل من ينتمي إلى هذا الوطن الغالي، وطن الرسالة والخير والأمن والأمان والسلام، أن يرضى لنفسه فيكون (كومبارس) لخدمة أجندة قناة الفتنة وأخواتها وغيرها ممن يتربصون للنيل من أرض الرسالات، خدمة لما عجز عن تحقيقه كسرى وأحفاده. إذ كيف لعاقل أكرمه الله سبحانه وتعالى بالانتماء إلى أرض الحرمين الشريفين، أن يؤلب عليها، ويسعى جاهداً لخذلان القائمين على قيادة دفَّتها.
فثوبوا إلى رشدكم، وعودوا إلى دياركم، فالوطن يسع الجميع، وساعتها يمكنكم التعبير عن وجهات نظركم في مختلف وسائل الإعلام المحلية كما يفعل الكل، فتتجاوب معها القيادة والجهات المعنية في وقتها. فكم من آراء طرحت في وسائل الإعلام تم إقرارها لتصبح قرارات سامية نافذة. كما يمكنكم أيضاً توجيه ما ترونه من نصح لولي الأمر مباشرة الذي يؤكد في كل مناسبة أن كل الأبواب مفتوحة لكل صاحب رأي أو مشورة، لكن ليكن ذلك كما قال عمر بن الخطاب: (بيني و بينه). فلا تحرموا أنفسكم مشاركة إخوتكم في خدمة رسالة بلادكم، وما أعظمها من رسالة. وصدقوني: إن لم تفعل السعودية منذ تأسيسها في بزوغ فجرها الأول عام 1157هـ -1744م، إلى قيام الساعة، غير تأمين الديار المقدسة وتهيئتها وخدمة عشرات ملايين الحجاج والمعتمرين والزوار كل عام، لكفاها شرفاً.
وختاماً:
مثلما أدرك المؤسس الملك عبد العزيز آل سعود، كل القوانين التي كانت تتحكم في موقعه الجغرافي والبشري والتاريخي، فاستطاع توظيفها لمصلحة بلاده، ومثلما بدا عبد العزيز ظاهرة مخالفة لقوانين التاريخ، ورفع شعارات اعتقد البعض ممن محدودي الرؤية إنها أصبحت في ذمَّة التاريخ وفقدت مفعولها، إلا إنها فعلت الأعاجيب في معسكر عبد العزيز، فثبت إنها وحدها هي التي استطاعت أن تحقق إنجازاً هو الذي بقي، بينما تلاشت أحلام الذين غرقوا في الأوهام.. أقول، مثلما كان المؤسس، كذلك هي قيادتنا الرشيدة اليوم تسير على خطاه. وقطعاً سيندهش الجميع قريباً بسبب ما يمكن أن يتحقق لنا بفضل الله سبحانه وتعالى، ثم بهذا الفكر النيِّر المتقدم الذي تتصف به قيادتنا اليوم.. وإن غداً لناظره لقريب.