د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
تعود أيام المهرجان الوطني للتراث والثقافة للإشراق لتباهي بالماضي إرثا وبالحاضر منجزًا؛ وتسترخي الصحراء الجميلة هناك لتنافس التمدن، وتحمل معها الفرص وتُفتحُ أجنحة المهرجان لتشرق من خلالها شموسنا الوطنية؛ ويتبلور هناك التنوع الثقافي المستنير الذي «صُنع في السعودية» والتراث الوطني المعتق الذي «رسخ في السعودية» ففي المهرجان تتآلف ثقافات التراث في بلادنا شرقا وغربا وشمالا وجنوبا في العادات والتقاليد والمهن لتشكل بيئة جاذبة فريدة.
فلقد جاء المهرجان يحمل حواس الوطن في كل نبضات ماضيه، فأصبحت الجنادرية ذاكرة جديدة، ومتجددة تستجلب الموروث الأصيل، وتلبسه حلة عصرية، وتقيم منصات الثقافة لتحتفي بالكلمة الجميلة في مرابعها، والفكرة الشاردة في منابعها, حتى أصبحت ثقافة الجنادرية علامة فارقة في الثقافة الحاضرة فحينما حل المهرجان في دورته «32» أحاطه القائمون عليه بجدارة الاستبصارات الماضية من تراثنا، وجعلوها مركبا لقيادة الحاضر وتحققت من خلال ذلك بعض أهداف رؤيتنا الحضارية 2030 من خلال بعض الممكنات الحاضرة والتي تومض في الأفق.
وفي المهرجان الوطني للتراث والثقافة طوّق خادم الحرمين الشريفين وسام المؤسس الملك عبدالعزيز لثلاث قامات وطنية، فأصبح التكريم الملكي الوطني ذاكرة أخرى في المهرجان تشهد لحكام بلادنا بأنهم كما نرى ونفخر.
وفي هذا العام 1439 سقى الغرس ودشّن التظاهرة الوطنية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز حفظه الله؛ وتحدث فأوفى بأن «البعد الإنساني المشترك في كل الثقافات هو مرتكز أساس في العلاقات بين الدول وتحقيق التعايش والتسامح» وذلكم تأطير ملكي كريم للمهرجان كمكون للثقافة الممتدة وكأرضية لصناعة التعايش الودود؛ كما يحضر مهرجان الجنادرية هذا العام في قلب حراك بلادنا نحو حضارتنا الحديثة ليتواشج المهرجان معها.
ويقابلنا في مهرجان الجنادرية مصطلح الانتقال من المحلية إلى العالمية الذي يتربع على واقعه منذ عدة سنوات، فقد صيغت على أرضه منصات عالمية للتراث والثقافة والفنون فأصبح مركز إشراق آخر تتوهج منه انعكاسات على حضارتنا، كما أن المتتبع للسجل التاريخي للمهرجان (1405- 1439) يستبصر تاريخ التراث في بلادنا ثقافة وتقاليد وقيما عربية أصيلة يجسدها المهرجان على أرض الواقع فعندما خطا المهرجان خطواته الأولى؛ اتكأ على محددات تراثية للناس بها شغف ووله, ولهم فيها مآثر ومنابر انطلاقا من سباق الهجن, حيث كانت الهجن هواهم حين المسير, وحين النفير؛ وانتثرت في المهرجان الحرف والصناعات اليدوية الشعبية المتقنة التي لم تراقصها خطوط المصانع؛ ولم يدرس أصحابها مفهوم الجودة وتطبيقاتها، ولكنها ملأت الحال وكفتْ المكان, وحيث عبق الروائح الزكية التي لم تتحقق فيها النسبة والتناسب بين مكوناتها في معامل الصناعات؛ إلا أنها مهنة معشوقة فكان خلط عناصرها في حنايا الوجدان, وقياس جودتها بالعين المبصرة الفاحصة.
كل ذلك وغيره أسس لثقافة إحياء التراث, ونجح فيها المهرجان باقتدار؛ فحقق المهرجان تجسير الفجوة بين الناشئة وتراثهم.
ولقد ارتقت الجوانب الفكرية شأنا آخر فأصبحت الندوات الفكرية الثقافية ركيزة هامة من ركائز المهرجان فجلها قيّمٌ وفير يحمل مخرجات راقية.
ومن خلال مشاهداتي الشخصية فإن المراهنة في المنصات الفكرية الثقافية مازالت تنصب على ندرة الحضور كما ونوعا، فلعل وزارة التعليم تكفل تنظيما توعويا بين منسوبي الجامعات وطلابها وكذلك في التعليم العام للاستفادة من الندوات بشكل محفز ومنظم، وأن تعتبر الوزارة كل محفل فكري ثقافي في بلادنا بضاعة مكتسبة مهداة للتعليم لدعم فكر الشباب واستثمار وجود الشخصيات المؤثرة التي تعتلي تلك المنابر لبناء الفكر الممتلئ إيجابية من خلال المعرفة الجاهزة، كما نتمنى أن يكون الإعلام قوة وطنية ووسيطا قويا أمينا في إيصال فكر الندوات الثقافية إلى مواقع الشباب خاصة وحياة الناس بصفة عامة.
وتبقى تلك التظاهرة الوطنية تتنازع الأفضلية وتجتمع في أنها رافد من روافد الانتماء لهذه البلاد الطاهرة وماضيها الأشم وحاضرها الأتم ومستقبلها الأمثل بإذن الله.