د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
في إحدى محاضرات طلاب الدراسات العليا، وبعد أن انتهيت من مناقشة قضية من القضايا النقدية المهمة، وعرضتُ لأبرز آراء النقاد المعاصرين فيها، وأبديتُ لهم الرأي الذي أميل إليه، انبرى أحد الطلاب بسؤال يقول: جميل يا دكتور، ولكن إذا أتيتَ لنا بهذه القضية في الامتحان، وطلبتَ منا الرأي فيها، فأي الآراء نكتب؟ قلتُ له: تكتب رأيك، فردَّ باستغراب: نعم، ولكن ما الرأي المناسب؟ هنا لم أتمالك نفسي من الغضب، وسألتُه: هل فهمتَ القضية والخلاف الدائر حولها؟ هل استوعبتَ أقوال النقاد فيها؟ هل أدركتَ المنطلقات الفكرية والثقافية التي اتكأوا عليها؟ هل وعيتَ الحجج والبراهين التي أدلى بها كل ناقد؟ قال: نعم، قلتُ: إذن كن جريئاً، واكتب رأيك الخاص فيها، مع تعليلٍ مقنعٍ تشعر من خلاله أنه هو الرأي الصحيح السديد، حتى لو خالفتَ جميع أولئك.
إنَّ مثل هذه المواقف وغيرها تؤكد أنَّ كثيراً من طلابنا اليوم -إن لم يكن كلهم- يفتقدون إلى استقلالية التفكير، وإلى قوة الشخصية، والجرأة في اتخاذ الأحكام والقرارات، وفي حاجةٍ إلى مزيد من الشجاعة، والثقة بالنفس، في إبداء الآراء، ومخالفة الأقوال السائدة ومناقشتها ومراجعتها، وكأن هذه الممارسات جريمةٌ ينبغي الحذر من الوقوع فيها.
وأظن أنَّ من أبرز الأسباب المؤدية إلى تفاقم هذه الظاهرة طريقة التعليم، حيث يتعود الطالب على استقبال المعلومات وحفظها واستظهارها على ورقة الامتحان في كل مرة، دون أن يفكر في حقيقتها، ومن غير أن يتجرأ يوماً على مناقشتها مع أستاذه، أو مراجعتها مع متخصص، فضلاً عن رفضها والاعتراض عليها، بل فضلاً عن الإتيان برأي جديد مخالف لكل الآراء التي عرفها ودرسها، وهنا يبرز الدور المهم للمعلم الذي ينبغي عليه أن ينمي مهارة التفكير النقدي لدى الطالب منذ مراحله الأولى، وأن يشجعه على قول رأيه الخاص دون خوف أو تردد، وأن يمنحه مساحةً واسعةً من النقاش وتبادل وجهات النظر، وأن يؤكد له مراراً على أهمية هذه الممارسات، وعلى ضرورة عدم قبول قول أحد إلا بعد دراسةٍ وتمحيصٍ وقناعة تامة.
إنَّ معاملة الطالب على أنه جهاز تسجيل ليس له مهمة إلا الحفظ وتدوين المحفوظ دون أن يكون له رأي فيه، من شأنه أن ينشئ لنا جيلاً متكلاً على غيره، منهزماً من الداخل، أبعد ما يكون عن التجديد والإبداع؛ لأنه يردد كالببغاء ما قاله السابقون الأولون، فلا يُقدِّم ولا يتقدَّم، ولا يحل ولا يربط، مهزوز الشخصية، ضعيف الثقة بالنفس، لا يُتوقَّع منه أن يطوِّر ولا يتطوَّر، طموحه أن يتجاوز المرحلة، وأن يحصل على وظيفة رتيبة، دون أن يفكر في نمو أو تجديد، ليس لأنه لا يريد، بل لأنه غير قادر على ذلك، إذ لم يؤسس تأسيساً علمياً صحيحاً، ولم يتربَّ على مهارات التفكير النقدي، واستقلالية الرأي، والجرأة في اتخاذ القرار، وتحمل المسؤولية.
لقد قلتُ ذات مرة إنَّ من الشروط الرئيسة التي ينبغي أن تتوفر في الناقد المبدع أن يكون مستقلاً بفكره ورأيه، متحرراً من كلِّ سلطةٍ غير علمية يمكن أن تؤثر في فلسفاته وأحكامه النقدية، وأن يكون واعياً بأهمية هذا الاستقلال الذي هو في الحقيقة مكوِّنٌ رئيس من مكونات شخصيته النقدية وحضوره الثقافي، وهذا الأمر يتطلب بلا شك شجاعةً في طرح الآراء، وجرأةً في إصدار الأحكام، من خلال النظر العلمي المؤصل، والذوق الفني المدرب، وعدم الاكتراث بما يردده الآخرون من أقوال وآراء.
إنَّ وصول الطالب إلى مرحلةٍ عاليةٍ من مراحل التعليم وهو لا يتقن مثل هذه المهارات يعد إشكاليةً كبرى، خاصة وهو مقبلٌ على إعداد رسالةٍ علميةٍ يفترض فيها الجودة والجدَّة والتجديد، ويُنتظر فيها أن تبرز فيها شخصيته بكل وضوح، وينبغي منها أن تكون إضافةً في العلم والتخصص، وأن تسهم في التطور والتطوير، وهذا لا يمكن أن يتحقق دون أن يكون الطالب مستقلا بتفكيره، بارعاً في القراءة النقدية الفاحصة، متمرساً على التدقيق واستعراض الآراء واستيعاب الأدلة، يتحمل المسؤولية الكاملة في الاختيار والترجيح، ولديه الجرأة الكاملة على الرد والاعتراض والتفنيد.