حسن اليمني
حرية الرأي والتعبير أحد المفاهيم المنطقية السهلة الصعبة بذات الوقت، ولو فصلنا «حرية» عن «الرأي والتعبير» ربما يزول بعض اللبس ويسهل التوضيح في المفهوم لهذا العنوان.
الحرية بالمفهوم الواسع هي فوضى بلا منطق أو حدود، وخير مثال لممارستها بالمطلق ربما نراه في سلوك وتصرفات الحيوانات، إلا أنه وحتى في التدقيق الدقيق لتصرفات وسلوك الحيوانات نجد ضوابط وقواعد في كثير منها لهذه الحرية، ففصيلة الذئاب مثلاً لها نظام أسري يتقيد به أفراد العائلة بشكل طبيعي فالذكر والأنثى لا يتزوجان بعد فقدان أحدهما الآخر كما لا يخونان بعضهما وتتميز ببر الوالدين بعكس كثير من الحيوانات الأخرى، كما أن الغربان أيضاً لها ضوابط وقواعد مثل معاقبة التحرّش بأنثى الآخر، وبالمختصر فإن الحرية المطلقة غير موجودة في طبيعة ومنطقية السلوك.
أما الرأي والتعبير عنه بالصوت أو الحرف أو النقش فهو أمر أشبه ما يكون بالشيء البديهي الذي لا يختلف عليه اثنان إلا أن تأثير هذا الفكر أو الرأي يخضع للمفهوم العام لأي مجتمع بحيث لا ينحرف من الاتجاه البناء إلى وخز مؤذ للآخرين، لهذا تسن الأنظمة والقوانين والشرائع لضبط حدوده وأبعاده حتى في بلدان الحريات الأكثر تحرراً في كل شيء، بل إن هيئة الأمم المتحدة وهي المؤسسة الدولية الأم لدول الأرض وفي دستورها لحقوق الإنسان تعلن في المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أن لكل إنسان حقاً في اعتناق آراء دون مضايقة، وله حق حرية التعبير لكن تشترط أن يستوجب ذلك مسؤوليات وواجبات خاصة، لذلك تجيز إخضاعها لبعض القيود.
أن الرأي الحري بالتعبير على أوسع نطاق هو ذلك الرأي الذي ينبع من مفهوم وعي وثقافة المجتمع ويرتقي به لا أن يبعثره أو يتصادم مع مسلماته الراسخة - وإن فضلت وصفها بالجينية - ومثال ذلك نحن هنا كعرب مسلمين من الصعب أن نقبل رأي أو فكر يمس بعروبتنا وديننا لكن المشكلة تكمن أحياناً في عجزنا عن رؤية الخيط الدقيق الذي يحيط الكينونة الاجتماعية في مدى تحليق الفكر وولادة الرأي أو الفكرة ما يعني تجاوز حدود المسؤولية والواجبات الخصوصية التي تصنع الفرقة والاختلاف وهو ما يستوجب ردعه وإعادته إلى داخل دائرة المقبول والمسموح به.
أن الجراءة في الطرح شجاعة تستحق التقدير والاحترام، وأن تصحيح المفاهيم وإعادة تدويرها بما يناغم راهن الوقت هو إبداع يستحق أيضاً التقدير والاحترام، كما أن كشف الضعف والأخطاء والتقصير هو عمل نبيل وخادم يرتقي بالعمل والتوجه نحو الأفضل، يقابل ذلك شجاعة في التواضع وجراءة القبول للنقد والتصويب ليكتمل الرسم الطبيعي والمنطقي لتقدم المجتمع قائد ومقاد نحو الاتجاه الصائب الآمن، لهذا تعد حرية الرأي والتعبير غاية في الأهمية ولكن بحدودها وضوابطها «الذاتية» والتي تتطلب في المقابل قبول «ذاتي» أيضاً للنقد وتقبل المكاشفة في الأخطاء والتقصير ما يخلق مناخاً نظيفاً ونزيهاً لكشف وفضح الفساد والخمول والإبداع في توفير المعالجات والحلول، وليس هذا وحسب، بل إنه المناخ السليم الذي يخلق الوعي العام المتقدم ويدعمه بالمرونة وتقبل الرأي المخالف الذي يحول الاختلاف إلى طوب مختلف الأحجام والأشكال للبناء وليس معاول هدم.