د. عبدالحق عزوزي
قام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بواحدة من أكثر الزيارات حساسية منذ انتخابه، عبر توجهه إلى جزيرة كورسيكا التي يعيش فيها 330 ألف نسمة، حيث واجه منذ وصوله إلى قصر الإليزيه ضغطا متزايدا من القوميين بعد مظاهرات متعددة ضمت آلاف المؤيدين لهم، يطالبون بحكم ذاتي للنهوض باقتصاد الجزيرة التي تعد الأفقر في المناطق الفرنسية.
وللذكر فإن جزيرة كورسيكا بقيت لعقود مسرحا لأعمال عنف تمثلت بأكثر من 4500 هجوم أدى جلها إلى أضرار مادية وتبنت الجزء الأكبر منها جبهة التحرير الوطني لكورسيكا. وبلغت أعمال العنف أوجها بعد اغتيال كلود إرينياك في 6 شباط/ فبراير 1998 أثناء توجهه إلى حفل موسيقي مع زوجته، وهو أول محافظ يقتل في فرنسا منذ الحرب العالمية الثانية، وهذا يعني مما يعنيه ضرب السيادة الفرنسية والخروج عن القوانين السامية المنشئة والمؤسسة للجمهورية الفرنسية الخامسة.
وخلافا لدعوة الكاتالوكيين الإسبان الانفصال عن مدريد بسبب غناء الجهة من كل النواحي، فإن جزيرة كورسيكا فقيرة مقارنة مع الجهات الفرنسية الأخرى، وتعتبر السياحة أهم مصدر ثراء لها، وتمثل عائدات القطاع أكثر من ربع ناتجها الإجمالي المحلي. وهذا غير كاف بالنسبة لفريق من الزعماء القوميين في كورسيكا فهم يطمحون إلى الاستفادة أكثر من السياحة بمنح الجزيرة وضعا قانونيا جديدا يتأقلم مع متطلبات الاقتصاد المحلي.
زار إذن الرئيس الفرنسي في الأيام الأخيرة جزيرة كورسيكا، وكان خطابه في الجزيرة منتظرا جدا من أناس شغلهم الشاغل هو إيصال دعواتهم الانفصالية إلى أبعد مدى، ومن أناس يتربصون بالرئيس الشاب الدوائر لمعرفة مدى قدرته على المشاكل الداخلية المستعصية خاصة تلك التي ينبعث منها رائحة الانفصال والخروج عن طاعة السلطة المركزية. الرئيس الفرنسي كان ذكيا وواقعيا في تناوله للموضوع، فهو أعرب عن استعداده للاعتراف بخصوصية كورسيكا لكنه رفض مطالب القوميين الأخرى في الجزيرة المتوسطية، وبالأخص مسائل اللغة التي يطالب القوميون بالاعتراف بها كلغة رسمية أخرى في البلاد مما جعل القوميين الانفصاليين يقاطعون مأدبة غذاء كانت ستجمعهم مع الرئيس ماكرون.
وأبدى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في هذا الخطاب استعداده الكلي للاعتراف بخصوصية الجزيرة المطلة على البحر الأبيض المتوسط، وقال في خطابه إنه «يؤيد ذكر كورسيكا في الدستور» الفرنسي، أحد المطالب الأساسية للتحالف بين مؤيدي الحكم الذاتي والانفصاليين. وتابع ماكرون «ستكون طريقة للاعتراف بهويتها وترسيخها في الجمهورية» الفرنسية، فيما أثار هذا المطلب جدلا كبيرا في البلاد التي يقوم نظامها على مركزية شديدة بداعي «عدم تقسيم» الجمهورية. وفيما يتعلق باللغة، ذكر ماكرون أن «الفرنسية هي اللغة الرسمية الوحيدة في الجمهورية». وتابع «يجب الحفاظ على اللغة الكورسيكية وتطويرها» لكنه أكد أنه «لن يقبل أبدا بتخصيص هذه الوظيفة أو تلك لمن يتكلم اللغة الكورسيكية». ومنذ اغتيال إرينياك، طوت القومية الكورسيكية في 2014 صفحة العمل السري والاعتداءات، قبل أن تفوز في صناديق الاقتراع ممثلة بثلاثة نواب من أصل أربعة عن الجزيرة في 2017 ثم حصلت على أكثرية مطلقة في الانتخابات المحلية في كانون الأول/ ديسمبر..
الذي يهمني من هذا المثال وكما قلنا في مناسبة تحليلنا لدعوات الانفصال في كاتالونيا، (وإن كان الاختلاف جوهريا بين المنطقتين إحداهما من كبار صناع الناتج المحلي الوطني في العالم، وأخرى من المناطق الفقيرة) فإن المشكل أولا وقبل كل شيء هو أخلاقي بالدرجة الأولى. ومن هنا يمكن الإعلان عن فشل الدولة والنظام الإداري المطبق فيه في تثبيت قواعد المواطنة للجميع، ومن هنا أيضا المرض العضال الذي بدأ يصيب الإنسان الأوروبي، وهو التفكير في نفسه وفي محيطه الضيق، حيث لا تهمه إلا مصلحته ومصلحة هذا المحيط، ولا تهمه البتة مصلحة الجماعة ولا الدولة الأم. أما الدولة/ المركز، فهي تفكر بمناظير لا تتوفر عليها المناطق ذات الحكم الذاتي أو التي تسعى إليها... فهي تفكر في مصلحة الجميع، وفي ضرورة حسن توزيع الثروات، وفي إخراج المناطق الفقيرة من غيابات الجب إلى عالم التنمية، وسواء كانت المنطقة التي تطالب بالاستقلال غنية أو فقيرة فإن ذلك مخالف لمفهوم العلوم السياسية حيث إن من أهم قواعدها مسألتي الوحدة والديمومة، كنظام للدولة وكنظام للحكم، ولبنان والعراق وليبيا تعطينا أكبر الأمثلة عندما ينعدمان أو ينعدم إحداهما.