أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: من قواميس السياسة المعاصرة الأستاذ (محمد حسنين هيكل)؛ وهو شاهد حقبة من الزمن خطيرة، وليس هو بحاجة إلى جاه أو سمعة أو مال؛ فقد بلغ الذروة من كل ذلك؛ وإنما كان حق الأمة قبل وفاته عليه أن يصارح أمته بأسرار التخبطات السياسية التي كان يركن إلى وصفها حتى وفاته؛ وكان عليه أن يفهم أنّ العمر قصير، والزاد قليل؛ ولأن مصارحته إضاءة وتبصير للأمة؛ وتكفير ما أحدثه ميله العاطفي إلى المراوغة والغمغمة السياسية؛ وقد سمعت هذه الأمنية من فم صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز آل سعود -رحمه الله تعالى-.. وكان طموح القارئ إذا تناول (محمد حسنين هيكل) علماً مثل الملك عبدالعزيز -رحمه الله تعالى- أن يتحدث بكل صدق وصراحة بعيداً عن ترسبات عهد 1952م؛ ولقد أحسن بعض الإحسان في تناوله سيرة الملك عبدالعزيز في مقدمته لكتاب (لسراة الليل هتف الصباح)؛ وذلك الكتاب مادة ثرية جديدة للمؤرخ السعودي مع ما صحبها من إضاآت لمؤلفها معالي الشيخ عبدالعزيز بن عبدالمحسن التويجري رحمه الله، وقد أبنت عن رأيي في هذا السفر النفيس أيام صدوره بمساهمة مني في جريدة (الشرق الأوسط)؛ فمجرد التفاتته إلى تاريخنا السعودي بركة تاريخية نعتز بها.. إلا أنه أبدى عناصر ذات ثلم لم تسترها ألمعية المؤرخ الكبير للسياسة المعاصرة، وجعل فيها مدخلاً لمغالطات أعداء الأمة من الشعوبيين؛ وهذه هي العناصر التي ذكرها الهيكل: أولاً أن عبدالعزيز آل سعود أنشأ دولة ونظاماً، وأن ذلك حدث عهدت به المقادير، وأن تأسيس الدول وإنشاء النظم يحتاج إلى إرادة تحرك التفاعل الكيميائي [قال أبو عبدالرحمن: هذه الاستعارة من تنطع بعض أبناء العصر] بين الجغرافيا والتاريخ.. ووصف التفاعل بأنه خلاق، وبأن أولئك المنشئين المؤسسين لا يتكررون بسهولة .
قال أبو عبدالرحمن: هذه أبجديات يعرفها العامي، ولا يحتاج إلى شهادة من الحس التاريخي المعاصر لهيكل.. إلا أن العامي أرهف حساً من هيكل؛ لأنه لا ينسب هذه الظاهرة الباهرة إلى مقادير مجهولة الفاعل، ولا يرى في مجيىء عبدالعزيز تحريكاً خلاقاً للتفاعل بين الجغرافيا والتاريخ؛ بل جاء ليعيد التاريخ إلى ظرفه المكاني؛ وهو جغرافية الجزيرة العربية؛ لأن عبدالعزيز لم يفد إليها بفكر دخيل يقتضي معاناة تفاعل خلاق!!.. وإنما فجر عبدالعزيز بالتفاعل الفعال قدرات الكوادر البشرية؛ وتلك الكوادر قطاع يخصف النعل، ويرتق الثوب، ويخرز القربة، ويسحج الخشب في إطار من الأمية والعامية والجهل والمرض والفقر والخوف؛ فحولهم بتوفيق الله سبحانه وتعالى إلى طلائع تستورد الميزة من التمدن، وتحذف المجمل، وتسعى إلى امتثالها تعليماً وتعلماً بعبقرية فكرية ، أو مهارة تلقينية؛ فكل أحد ميسر لما خلق له..والعنصر الثاني الذي ذكره هيكل: أن فعل المباشرة للتأسيس والإنشاء يتأتى من ضرورة طبيعية إنسانية في جزيرة العرب التي سادت فيها الفوضى قروناً طويلة!!.. وهي رقعة ذات اهتمام عالمي ولا يريد لها خيراً ؛ وتلك الرقعة لا تقبل الاستمرار في الفوضى؛ إذن فعل عبدالعزيز ليس نوعاً من الحتمية التاريخية!!؛ وأما الواقع التاريخي فلم تسد الفوضى في الجزيرة قبل عبدالعزيز قروناً طويلة؛ وإنما كان قبل الملك عبدالعزيز: عبدالعزيز بن محمد، وسعود، وعبدالله، وتركي، وفيصل، الذين وطدوا الأمن أزيد من قرنين؛ وإنما اختل الأمن قبل قيام الدولة السعودية المباركة.. والعنصر الثالث: الاهتمام العالمي الذي تضفر مرائره الأماكن المقدسة، وطرق التجارة المشتركة ؛ فقد كان هذا هو واقع قلب الجزيرة منذ عهد بني أمية وبني العباس والعثمانيين.. إلى الدويلات العقيلية بالشرق انتهاأً بآل عريعر الخالدييين.. إلى دولة الأشراف بالغرب.. إلى الحملات الظالمة منذ محمد علي، وخورشيد، ومدحت باشا، ومباركات (سادلير) و(لويس بيلي)؛ فما فكر هؤلاء أن يحكموها حكماً مباشراً يمد ويؤهل طاقاتها للعمل المثمر، ويقيم فيها دين الله عقيدةً وشرعاً.. وبعيد أن يفكر الأشرار هذا التفكير ولو باسم دعوى التمدين العالمية التي حملتها ثورة فرنسا تحت شعار (حقوق الإنسان)!!.. لا يهم أولئك أن يعبد في جزيرة العرب الوثن أو الرب، ولا يهمهم عودة الجاهلية الأولى، وتمزق القلة تحت وطأة اللصوصية، والثارات، والجهل، والفقر، وتعطيل الواهب والخبرات والمهارات.. إنما كانوا يستكفون شرها، ويتحايلون على أمن الطرق بالخفارات والأعطيات لرؤوس العربان، أو بالحملات العسكرية عليهم ، ثم بترتيب كفلاء عليهم؛ وذلك هو (درك الطريق) مع بقاء الأعطيات والهبات لشيوخهم.. لم تصدر إرادة عالمية ألبتة (من عهد دولة بني أمية المسلمة إلى عهد دول الحلفاء الاستعمارية) بضرورة الأمن والعمران والدولة والنظام في ذلك القلب من جزيرة العرب حتى يكون عبدالعزيز حتميةً تاريخية لتلك الإرادة لاقت بالمصادفة رجلاً مؤهلاً لهذه الحتمية اسمه عبدالعزيز آل سعود.. كلا كلا.. إنما كان عبدالعزيز هبةً ربانية رحمانية؛ فجاء فعله نتيجةً طبيعية لثلاث ظاهرات:أولاهن تاريخ أجداده المحبوب المرغوب الذي أصبح حقاً للأمة المشتتة بعد وحدة دينية قومية وطنية تجاهد من أجله، وتستميت في سبيله.. وثانيتهن إيمان عبدالعزيز الصادق بدوره القيادي، بل إيمانه بشرط دوره القيادي من إرضاء الرب ، وإسعاد العبد ..وثالثتهن كفاآته الوهبية والكسبية؛ ولا دخل للمصادفات في الرجعة الكبرى إلى ذلك التاريخ المجيد؛ بل هي العناية الربانية بإتمام مسيرة من بدأ الجهاد، وصمم عليه بذكاء وعزم وإيمان وثقة بنبل الهدف؛ ولهذا كان شعاره:(السيرة تبين السريرة)؛ ولا عبرة بالأقوال دون أفعال، أو خلاف الأفعال ، ويأتي العنصر الرابع إن شاء الله تعالى في السبتية القادمة؛ وحسبي الآن الإشارة إلى أن عبدالعزيز: كتلة من المواهب، والبصيرة، وفراسة المؤمن، والخبرة بعلل المجتمع وأدوائه، والوعي المحنك بالمتغيرات العالمية من حوله، والتحرك المنظم المدروس المخطط له الذي كشف عن دقة تنظيمه في منجزات شتى.. جمع الله في إهابه ما جمعه لكبراء القادة ذوي النيات الخيرة على مدار التاريخ.. وإلى لقاء مع بقية المراوغات الهيكلية إن شاء الله تعالى, والله المستعان.