د. عيد بن مسعود الجهني
مع صعوبة وضع تعريف جامع مانع للتحكيم فإن غالبية الأنظمة القانونية لم تتصدَّ لتعريفه وكذلك الاتفاقيات الدولية الخاصة بالتحكيم؛ نظراً للصعوبة التي تكتنف تعريفه، بل لقد تركت هذه المهمة للفقه، مما ترتب عليه أن جاءت التعاريف للتحكيم متعددة ومتباينة.
ومن جانبه عرَّفه المنظِّم السعودي بالمادة (1) فقرة (1) من نظام التحكيم الجديد بأنه (اتفاق بين طرفين أو أكثر على أن يحيلا إلى التحكيم جميع أو بعض المنازعات المحددة التي نشأت أو قد تنشأ بينهما في شأن علاقة نظامية محددة، تعاقدية كانت أم غير تعاقدية، سواء أكان اتفاق التحكيم في صورة شرط تحكيم وارد في عقد، أم في صورة مشارطة تحكيم مستقلة).
يتضح من نص المادة الأولى من نظام التحكيم السعودي الجديد أن المنظم أكد على أن اتفاق أطراف العلاقة القانونية هي الأساس لنشوء التحكيم سواء كان شرطاً أو مشارطة، فالمشرِّع منح أطراف النزاع المحتمل حدوثه مستقبلاً الحق تنفيذاً لإرادتهم أن يحيلوا نزاعهم إلى التحكيم الذي يصبح بموجب النظام حكمه نهائياً.
ومن يتابع تطور التحكيم في المملكة يدرك أن الدولة قد أولت هذا الجانب أهمية تستحقها، فجاءت نصوص التحكيم في نظام محكمة المنازعات التجارية والمادة 183 من نظام العمل الصادر عام 1389 أقرت التحكيم، ومع التطور الاقتصادي والتنموي صدر أول تنظيم للتحكيم الذي تضمن نظام الغرف التجارية الصناعية عام 1400هـ.
ونظراً لما لوحظ من أن ما ورد في شأن التحكيم في قانون المحكمة التجارية وبشأن المنازعات العمالية وما ورد من نصوص بشأن التحكيم في نظام الغرف التجارية لا يساير النهضة الاقتصادية في المملكة.
ومتابعة لتطور مسيرة الأنظمة في بلاد الحرمين الشريفين صدر في عام 1983 نظام التحكيم السعودي الذي بلغت مواده (25) مادة، وفي عام 1433هـ صدر نظام التحكيم الجديد بمواده الـ (58) ولائحته الشارحة له بموادها الـ (48) الذي يعد خطوة على الطريق الصحيح جاءت في الوقت المناسب لتلافي الثغرات والقصور في النظام القديم.
وهذا النظام بصيغته المتطورة أبان القواعد الرئيسية لاتفاق التحكيم والإجراءات ولغة ومكان وهيئة التحكيم وإجراءات الفصل في الدعوى التحكيمية والقانون الواجب التطبيق والحالات التي يصبح بها حكم التحكيم باطلاً، وحجية أحكام المحكمين وتنفيذها.. الخ.
وقد جاء النظام متمشياً مع التطورات الاقتصادية والتنموية المتسارعة، وملبياً لحاجات الشركات الوطنية والأجنبية ورجال الأعمال والمستثمرين، باعتبار أن المملكة باقتصادها الكبير أصبحت مقصداً رئيسياً للمستثمرين من جميع دول العالم مستفيدين من الاستقرار السياسي والاقتصادي، حيث يعتبران المناخ الرئيسي لجلب الاستثمارات.
ولأهمية التغيير المستمر في جميع الشؤون وما يترتب عليه من مراجعة للأنظمة، فهي عند وضعها لا تعالج إلا ما يكون تحت النظر في وقت صدورها، ومن ثم فليس بمقدورها مسايرة الأحداث ما لم تمتد إليها يد التعديل أو التغيير أو الحذف أو الإضافة أو حتى الإلغاء من حين لآخر. ولا شك أن هذا فيه تلبية تتمشى مع تطور المجتمع الذي أصبح في حاجة إلى نظام جديد أو تعديل في نظام قديم، وهذا ما قام ويقوم به واضع النظام في المملكة، فإننا نرى دائماً نظاماً أو لائحة أو نصاً في نظام قد مسته يد التعديل أو التغيير أو الإلغاء، خاصة وأن المملكة أصبحت ذات مركز اقتصادي قيادي في عالمنا المعاصر، وهي في سبيل الأخذ بكل نظام علمي متطور ومستحدث.
والمتتبع لتطورات الأنظمة في المملكة يدرك ذلك في ظل التطورات الاقتصادية والتنموية التي شهدتها البلاد في جميع الميادين مع زيادة مداخيل الدولة من النفط، خاصة بعد الزيادة المستمرة في أسعار النفط منذ عام 1973م الذي بدأت مسيرته السريعة منذ نشوب الحرب الإسرائيلية - العربية في شهر رمضان المبارك / أكتوبر من ذلك العام لتبلغ في نهاية عقد السبعينيات حوالي 80 دولاراً للبرميل.
ورغم التدني في سعر هذه السلعة الهامة في أواسط الثمانينيات عندما تدنى السعر إلى (7) دولارات وفي تسعينيات القرن الماضي عندما هبط السعر إلى (10) دولارات للبرميل، إلا أن الدولة التي تبنت سعر (18) دولاراً للبرميل استطاعت التكيف الاقتصادي مع ذلك السعر واستمرت في دعم التنمية المستدامة.
وباستثناء تلك الفترة فقد زاد دخل الدولة من النفط باعتبارها صاحبة أكبر احتياطي نفطي مؤكد أكثر من (265) مليار برميل وأكبر منتج ومصدر له أكثر من (10) ملايين ب/ي وبإمكانها رفع إنتاجها إلى (12.5) مليون ب/ي بل إلى 15 مليون ب/ي، فقد أصبح الاقتصاد السعودي واحداً من أكبر الاقتصادات وهي عضو مجموعة الـ (20).
ولأن التحكيم قد توسع في المجال الوطني، كما توسع في المجال الدولي مع ظهور العولمة (Globlization) وتدفق الاستثمارات وحرص الدول على تشجيع الاستثمارات الأجنبية، ناهيك عن أن نظام منظمة التجارة الدولية (TWO) جعل من التحكيم الملاذ المناسب لعقود التجارة بكافة أنواعها لإيجاد الحلول المناسبة أمام المتنازعين على نحو يتفادى الصعوبات والتعقيدات التي قد توجد في القوانين والأنظمة الداخلية - ولذا وجدنا أن الدول قبل انضمامها لمنظمة التجارة الدولية قامت بتعديل بعض قوانينها حتى تتلاءم مع متطلبات المنظمة كأحد الشروط الأساسية للانضمام إليها.
من هنا فإن المنظم السعودي إدراكاً منه لأهمية التحكيم، والمملكة عضو في منظمة التجارة الدولية ومنظمات عدة أخرى، فقد نص نظام التحكيم الجديد في مادته الثانية على: (مع عدم الإخلال بأحكام الشريعة الإسلامية وأحكام الاتفاقيات الدولية التي تكون المملكة طرفاً فيها: تسري أحكام هذا النظام على كل تحكيم أياً كانت طبيعة العلاقة النظامية التي يدور حولها النزاع، إذا جرى هذا التحكيم في المملكة، أو كان تحكيماً تجارياً دولياً يجري في الخارج، واتفق طرفاه على إخضاعه لأحكام هذا النظام).
وهذا يؤكد اهتمام المملكة بالتحكيم تمشياً مع بروز النظام الرأسمالي وتواري الشيوعية بعد انهيار وتفكك الاتحاد السوفييتي (السابق)، فقد زاد اهتمام الدول في التدخل في إبرام أو في الإشراف والرقابة على العقود الكبرى في جميع أشكالها، وهذا زاد من أهمية التحكيم وجعله الوسيلة الملائمة لفض الخلافات والنزاعات التي قد تثور بمناسبة تنفيذ هذه العقود التي تمثل الشركات الكبرى المحلية وتلك متعددة الجنسيات طرفها التقليدي، هذا لأن الدول أو أشخاص القانون العام غالباً ما ترفض الخضوع للقضاء الأجنبي، وتفضل التحكيـم لأنها تشارك فيه باختيار المحكمين واختيار القانون واجب التطبيق.
وللحديث بقية
والله ولي التوفيق،،،