د. أحمد الفراج
من باب عدم الإثقال عليكم، سأتجاوز الشأن السياسي، وأحدثكم اليوم عن ظاهرة أصبحت مزعجة، لها علاقة بمصطلح «الهياط»، ألا وهي ظاهرة «الشعبوية»، التي يُعرِّفها المختصون بأنها «داء عضال، يتقمص فيه الإنسان رداء الصدق المزيف، فيتحدث فيما يظن أنه يلامس مشاعر المتلقي، ليكسب تصفيقا وشعبية»، وهو أسلوب ليس محصورا بالمجاهيل، بل ركب موجته بعض المثقفين، وذلك لكسب شعبية لدى الدهماء والعوام، ويتفق الخبراء على أن هذا الداء، الذي ابتلي به مجتمعنا، ليس له علاج، كما ثبت بالتجربة أنه قد يودي بصاحبه للتهلكة، ومع أن غالب الشعبويين من الفارغين، أصحاب الشهادات الوهمية، الذين دفع بمعظمهم تيار الإسلام السياسي لمناكفة الدولة، إلا أن بعض المثقفين، الذين كان يشار إليهم بالبنان يوما، استمرؤوا هذا النهج، فتحولوا إلى محرضين، ليس عن قناعة، بل من باب أنا هنا، ومن الطرائف في هذا الباب أن إعلاميا بارزا جدا، تحول بعد الثورات العربية، إلى مناصر شرس لتنظيم الإخوان، من باب: «طالما أنكم ضد التنظيم فأنا معه».
باب الشعبوية الواسع ولج منه بعض شعراء النبط، فأصبح عندنا شعر الوعظ، مثل شعر الغزل، وشعر المدح، ولا بأس أن يكتب المستشرف الشعبوي قصيدة غزل فاضحة في المساء، ثم يلحقها بقصيدة وعظ في الظهيرة، فالمتلقي لا يملك ما يكفي من قدرات ذهنية، ليستطيع الحكم على كامل نتاج الشعبوي، وهناك مثقفون، وبعضهم كتاب صحف، يقرؤون المزاج الشعبي العام، ثم يبدؤون البث عطفا على ذلك، ويتراءى لي أشهر الكتاب الشعبويين قاطبة، حينما ينقطع في مكان قصي، يفكر مليا عن أكثر المواضيع إثارة للرأي العام، ثم يثني ركبتيه، ويرمي غترته، ويسن قلمه، ويبلغ به الحماس مبلغه، وهو يتخيل مشهد المتلقي وهو يقرأ ويصفق، وبعد أن يكتمل تخيل المشهد في ذهنه، يبدأ يكتب مقاله، أو تغريدته على منصة تويتر، وينتقي من العبارات ما سيضمن له الحد الأعلى من التصفيق والصفير.
بعد نشر المقال أو التغريدة، تأتي ثمار ذلك سريعا على الشعبوي، فيتزلزل هاتفه النقال بالاتصالات والرسائل، التي تثني على شجاعته، فيشعر حينها أنه بطل قومي، ويمشي الخيلاء، ويسترزق من وراء ذلك، فيصبح أسيرا لهذه الجماهير الغوغائية، التي تدفعه للهاوية، ثم تتخلى عنه، فهو مجرد أداة تفريغية، وما لا تعرفه جماهير الغوغاء المغيبة عن الشعبويين، هو أنهم ليسوا صادقين وفقراء كما يزعمون، فمعظمهم أثرياء، ولكنهم يتكسبون بقضايا الفقراء والقضايا الوطنية، وأعرف شعبويا مهايطيا يملك أكثر من منزل، ومنح أراضٍ في معظم المناطق، وما تنوء بحمله البغال من المال، ثم يتحدث منتشيا عن الفساد، وتلاحقه جماهير الغوغاء، وسبق أن كتبت في هذه الجريدة الموقرة مقالا بعنوان: «الاقتصاديون الجدد»، عن أشهر ثلاثة شعبويين، يطرحون أنفسهم كخبراء اقتصاديين، رغم أن مسيرتهم العملية توحي بالفشل في هذا المجال، وبأن معرفتهم بالإقتصاد، تشبه معرفة نانسي عجرم في علوم الذرة!، والخلاصة هي أن النقد الصادق مطلوب، أي النقد المبني على حقائق، أما النقد السطحي، الذي يخاطب مشاعر الغوغاء بحثا عن شهرة وشعبية، فهو داء عضال ويجب أن يوضع له حد، وطالما هناك جماهير غوغائية، فلن تنقطع ظاهرة الشعبويين!