م. خالد إبراهيم الحجي
إن التعليم المبكر في المراحل العمرية الأولية من سن الطفولة هو الذي يشمل برامج الزيارات المنزلية التعليمية للأطفال، وسنوات الحضانة والروضة والتمهيدي قبل سن التعليم الإجباري والالتحاق بالمرحلة الابتدائية، ويكون التعليم المبكر في أماكن خاصة أحياناً، وفي أغلب الأحيان يكون في مؤسسات تعليمية أهلية أو حكومية معتمدة من قبل إدارات التعليم الحكومية. وهناك نظرة قديمة سائدة ترفض التعليم المبكر ولا تقتنع بفوائده للأطفال، ويفضلون الانتظار والتأجيل حتى سن السادسة، ويعللون وجهة نظرهم بأن التفاوت بين المدركات الحسية واللغوية، والمهارات اليدوية والجسدية، والقدرات الذهنية عند الأطفال يأخذ في التقارب والتماثل بل ويختفي أحياناً عند سن السادسة، السن الإجبارية للقبول في المرحلة الابتدائية. كما أن تأجيل التعليم المبكر إلى سن السادسة يعالج، من وجهة نظرهم، الفروق التي تنشأ بسبب اختلاف الطبقات الاقتصادية والاجتماعية. ولكن جميع الاستبيانات والأبحاث والدراسات التي أجريت على التعليم المبكر أكدت بالشواهد النظرية والأدلة العملية على أهمية التعليم المبكر للأطفال، وفي هذا الميدان قام فريقُ بحثٍ من مؤسسة راند (مؤسسة أمريكية غير ربحية تساعد على تحسين اتخاذ القرارات من خلال البحث والتحليل) بدراسة ميدانية لمدة عشرين عاماً تقريباً لمعرفة أهمية التعليم المبكر، وفوائده الاجتماعية والاقتصادية، وفوائده الاستثمارية؛ ثم أصدر فريق البحث ثلاثة تقارير: الأول في عام 1998م، ليتناول النظرة القديمة التي لا تقتنع بفوائد التعليم المبكر للأطفال، ثم جاء التقرير الثاني في عام 2005م، الذي شمل (20) برنامجاً للتعليم المبكر وأكد بالشواهد الواضحة والأدلة العملية أن هناك تطورات إيجابية في الجوانب الذهنية والعاطفية والسلوكية والشخصية والاجتماعية عند الأطفال المسجلين في برامج التعليم المبكر. ثم تبعه في عام 2017م التقرير الثالث: ليغير النظرة القديمة التي ترفض التعليم المبكر، إذ شمل (115) برنامجاً للتعليم المبكر جميعها خضعت لمعايير صارمة وتقييمات دقيقة. والتقارير الثلاثة خرجت بالنتائج والتوصيات التالية:
الأولى: وجود فجوة في الثروة اللغوية عند الأطفال في سن الثالثة قدرها (30) مليون كلمة بين أطفال الأسر البائسة التي تعاني من الفقر والحرمان وبين أطفال الأسر الميسورة والغنية المترفة، وهذا يصنع الاختلاف المزمن بين الأطفال بسبب الفوارق الاجتماعية والاقتصادية، والتعليم المبكر يعالج هذه الفجوة.
الثانية: وجود أكبر قفزة في المدركات الحسية واللغوية والمهارات اليدوية والجسمية والقدرات الذهنية عند الأطفال في سن الخامسة، وأن أطفال الأسر البائسة الفقيرة يتأخر مستواهم ويتخلف عن مستويات الأطفال المماثلين لهم في الأسر الميسورة والغنية؛ لأن مهارات الأطفال اللغوية ترتبط بأحوال أسرهم المهنية والاقتصادية والاجتماعية. وأن التعليم المبكر يعالج فروق اختلاف الطبقات الاقتصادية والاجتماعية.
الثالثة: التعليم المبكر يساعد الأطفال في كسب المهارات الحسية، ومهارات التحدث والتخاطب وزيادة الثروة اللغوية، ويُحسِّن المهارات المعرفية والعقلية الأساسية وينميها، ويعزز تفاعلهم الاجتماعي مع أقرانهم، ويبني شخصياتهم بناءً إيجابياً في بداية حياتهم ومقتبل أعمارهم ليصوغ مستقبلهم إلى الأحسن والأفضل.
الرابعة: الدراسات الاستثمارية التي أجريت في الدول السبع الأغنى في العالم (أمريكا وكندا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا واليابان) على التعليم المبكر حَسَبَتْ نسبة معدلات الصرف المالي إلى اقتصادات هذه الدول. كما حَسَبَتْ نسبة معدلات الصرف المالي على التعليم المبكر في الدول الستة والثلاثين الأكثر تطوراً في العالم إلى اقتصاداتها الوطنية. فأفادت الدراسات أن العائدات التقديرية من الاستثمار في التعليم المبكر تتراوح من (2-4) دولارات لكل دولار مستثمر فيها؛ أي بنسبة (200- 400) في المائة.. ومما سبق يتضح للقائمين على السياسات التعليمية أهمية التعليم المبكر للأطفال وجدوى الاستثمار فيه، لذلك أقترح تعميم برامج التعليم المبكر على جميع المدارس الحكومية، وتشجيعها ومساندتها ودعمها من قبل وزارة التعليم لتستفيد منه الأسر الفقيرة في الأحياء الشعبية المتواضعة في المدن الكبيرة، وفي القرى والهجر النائية؛ لأن توفير الاستثمارات المادية الكافية لدعم التعليم المبكر يُمَكِّن الأطفال من بناء شخصياتهم وصياغة مستقبلهم وهو ضرورة اجتماعية وواجب ديني وأخلاقي.
الخلاصة:
إن الاستثمار في التعليم المبكر لأطفال اليوم هو استثمار في رجال الغد وأبناء المستقبل.