عبدالعزيز السماري
مهما تغيرت الأحوال والأزمنة يعيش الإنسان في دوائر من المحرمات، كان أشهرها في ثقافتنا الإنسانية ثلاثي الخطوط الحمراء، الدين والسياسية والجنس، أو ثلاثي الأسئلة المعلقة للأبد، فالإنسان عالم من الأسئلة، وكثرة الأسئلة قد تعني وعيًا مبكراً أو رحلة شقاء لا تنتهي، وكان المجتمع يقوم بدور الموجه أو الحاكم لتلك الرغبات الملحة لإجابات عاجلة لبعض الأسئلة.
تدور أول الأسئلة المبكرة حول الجنس، وقد كانت وما زال في ثقافتنا بمثابة التابوت أو الكهف الذي لا يجروء فيه المراهق أن يطلق العنان لأسئلته في مراحل حياته المرتبطه بها، ودوماً ما يُواجه بالصمت أو القمع في بعض الأحيان، برغم من أن توعية المراهق مبكرا بالثقافة الجنسية الصحية أو الصحيحة قد تساهم في رفع درجة الوعي ومساعدته في تجنب الأخطار، وبالتالي التحكم في تلك طاقاته المتفجرة.
المرحلة المبكرة من عمر الإنسان تتصف بطاقة فكريّة وجسدية كبرى، وما لم يتم توجيهها في أوقاتها، قد تؤدي بالمراهق إلى ممارسات سرية وانحرافات خلقية، ومن ثم يتحول في المستقبل إلى بالغ غير متّزن جنسيّاً، ويستمر مراهقاً في بعض تصرفاته ولو كان في أرذل العمر، ولو تأملنا بعض سلوكيات البالغين لربما أدركنا معنى ذلك، فبعضهم ما زال يتصرف كمراهق في الخمسين أو الستين، وذلك نتيجة لحالة القمع التي تعرض لها وهو مراهق في عمره الطبيعي.
ثاني المحرمات التي قد تؤدي إلى الإفراط في ردات الفعل هي تلك الأسئلة التي يثيرها المرء في بدايات وعيه عن بعض المسائل الدينية أو النصوص أو الروايات التاريخية، وعادة فيما مضى يُواجه المرء بقمع غير مبرر، وقد يواجه بإقصاء مبكر، فالأسئلة كانت في حكم المحرم في بعض المسائل، وما زال الوعظ الديني يُقدم كإجابات مطلقة عن أسئلة سابقة في أزمنة مضت، بينما ظلت الأسئلة الجديدة تتراكم في عقول البشر، وهو ما ولد تيارات من التمرد في مختلف الاتجاهات، وقد تقود الإنسان تلك الحالة من التجاهل إلى الخروج عن الطاعة..
بينما لو تم فتح أجواء من الحرية المسؤولة على هامش الوعظ الديني لكان أصح للعقول، ولربما كانت سبباً لمعالجة كثير من حالات الرفض والتمرد، وهناك العديد من الأمثلة عن الخروج عن طوق الطاعة، ولا يمكن حصرها في هذه العجالة، وكان سببها الأول قمع الأسئلة وإقصاء السائل أو إعلان الحرب عليه، وهو ما يجعله في خيارين لا ثالث لهما إما الرضوخ للقمع أو الخروج عن المجتمع، وهكذا..
أما ثالثة المحرمات في عقل الإنسان في مختلف بقاع الأرض فهي السياسية، فهذه الحالة قد تولد حالة من الخوف والذعر أكثر من سابقيتها، وهي تعني على وجه التحديد إثارة الأسئلة عن علاقات البشر من خلال المصالح، ولا تختلف كثيراً بين ثقافات البشر، ولكن قد تختلف خطوطها الحمر من مجتمع إلى آخر، ولكن أهم من ذلك أن أنجح في تقديم تعريف لها..
فالسياسة لا تعني فقط علاقة الحاكم بالمحكوم المباشرة أو السلطة بالمجتمع، لكنها اصطلاحاً تكاد تخترق مختلف الثقافات والتخصصات، فعلى سبيل المثال يُقال في الثقافة السياسة الثقافية، وفي الإعلام: السياسة الإعلامية، وفي الطب: السياسة الطبية، وفي الاقتصاد: السياسة الاقتصادية، وفي التربية: السياسة التربوية، وفي العلم: السياسة العلمية، وفي التكنولوجيا: السياسة التكنولوجية، وفي التاريخ: السياسة التاريخية..
وتسييس الأشياء يدخل في مختلف الاتجاهات ونواحي الحياة، والحديث في السياسة يعني محاولة إثارة خفايا الخطوط العريضة أو السياسات التي تحدد المصالح غير المعلنة، وهو ما يدخلها في أوسع أبواب المحرمات، ومثال على ذلك ما واجهه الكيميائي جيفري ويجاند عندما قرر أن يقول للعالم عن سياسات شركات التبغ الكبرى السبع التي عرفت وأخفت مخاطر منتجاتها عن المجتمع، وتعرض للتهديد والفصل بسبب إصراره على كشف سياسات شركات التبغ التي تخدم مصالحهم بغض النظر عن مصالح الناس.
إدوارد سنودن أمريكي ومتعاقد تقني وموظف لدى وكالة المخابرات المركزية، عمل كمتعاقد مع وكالة الأمن القومي قبل أن يكشف سياسات وكالة المخابرات، ويسرب تفاصيل برنامج التجسس على المجتمع الأمريكي وبقية العالم إلى الصحافة، وبعدها أصبح المطلوب رقم واحد في القضاء الأمريكي، وذلك بسبب إثارته للأسئلة وكشف سياسات الوكالة المخابراتية غير المعلنة، فالمفهوم والمتعارف عليه في السياسة في أغلب أحوالها أنها أفكار أو سياسات تخدم مصالح محددة غير معلنة، وأي إثارة أسئلة حولها أو الاعتراض عليها تحدث ردة فعل غير منضبطة من صاحب المصلحة الكبرى، وعندما يريد أياً كان أن يشكك في أمر ما يقول عنه إنه «مسيس»، وهو وصف غير بريء، وفيه إدانة للأمر..
ما قد يخفى عن الكثير ممن يحاولون النظر إلى الأشياء من خلال الأشخاص أو الأفعال أو المصالح، أن حياة الإنسان برمتها مجرد حالة سياسية عابرة، ولهذا عليك أخي القارئ أن تختار إما أن تكون مع الذين يملكون حقوق الأجوبة المطلقة، أو من أولئك الذين يثيرون الأسئلة، أو من الذين يجيدون مهارة الصمت في مختلف الأحوال ..