د. جاسر الحربش
أعتقد أن أول حاكم عربي في التاريخ العربي الحديث اختار الانتساب القومي التاريخي قبل الانتساب التأسيسي كان المؤسس الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه حين سمى الدولة بعد اكتمال توحيد الوسط والأطراف المملكة العربية السعودية.
ما نراه منذ هزائم الجيوش المتكررة، وهي هزائم لا دخل للشعوب العربية فيها، هو تحول التشنيع على من يعبر عن أصوله التاريخية العربية ويقول أنا عربي إلى إعلان براءة ثقافية وليبرالية ودينية منه ومن الأصول العربية. مثل هذا الوضع المتنكر للذات التاريخية واللغوية والجغرافية غير موجود ولا حتى في ألمانيا ما بعد النازية، التي تحاول بالتقية إخفاء اعتزازها الألماني القومي لصد الاتهام بمعاداة السامية، لكنها لا تتنصل من تاريخ وهوية ما قبل النازية.
ما يجب أن يفهمه الشباب تحديدا ً هو أن الاعتزاز بالانتماء القومي، أي بالأصول هو اعتزاز لغة وأرض وتاريخ بحسنه وسيئه، وأنه لا علاقة له بالعرق إذ من المعلوم أنثروبولوجيا ً اختلاط الأعراق البشرية منذ آلاف السنين وأن القومية العرقية خرافة عنصرية.
سأعطيكم أمثلة على الاعتزاز القومي على مستوى الدول وعلى مستوى المجموعات ثم الأفراد. على مستوى الدول لنفترض أن روسيا أو أمريكا أو اليابان تحرشت بتايوان الصينية المستقلة عن سلطة الصين الكبرى، من تعتقدون سوف تلجأ إليه تايوان ومن هي الدولة التي ستحمي تايوان؟. إن قلتم الصين فهذا اعتراف بالاعتزاز القومي، وإن قلتم مجلس الأمن فأنتم لا تعرفون الصينيين.
على مستوى المجموعات لنفترض أن مجموعة من البريطانيين البيض هاجموا هنديا ً في شارع يتعايش فيه البريطانيون الهنود والبيض، ما الذي سوف يحصل رغم أن الجميع يحملون الجنسية البريطانية؟. بالتأكيد سوف يتحول الموقف إلى معركة بين البيض والهنود حتى تفض الشرطة الاشتباك.
أما على مستوى الأفراد فلتفترض أنت أنك في عاصمة غربية ورأيت ثلاثة رجال غربيين يضايقون عربيا ً في شجار غير متكافئ وهو يصرخ يا عرب، هل ستغادر بدون مبالاة أم ستحاول التدخل لصالح العربي؟. لنعكس النسبة العددية ونفترض أنك شاهدت ثلاثة عرب يضايقون آخر غير عربي، ألن تتدخل لإيقافهم وتذكيرهم بواجب التصرف كعرب محترمين؟. في الحالتين أنت تدخلت لصالح انتمائك القومي، ففي المرة الأولى من أجل الانتصار لمثيلك في الانتماء، وفي الثانية لحفظ سمعة انتمائك من النذالة والجبن.
إعلان البراء من الانتماء القومي الكبير بحجة التحاسد والتباغض بين الشعوب العربية مع التركيز على الشأن الخاص في الانتماء القطري الأصغر فقط، هذا الموقف هو الذي جعل الجغرافيا العربية منذ عشرات السنين المسرح المفضل للغزو والتدمير وتنفيذ الدول الأجنبية صراعاتها على الأراضي العربية.
هل الولاء القومي يلغي الولاء القطري أم يعززه ويحميه؟. لن أعطيك الجواب وأطلب منك فقط التفكير قبل الحكم. الانتكاسات الكثيرة المحسوبة على حكومات رفعت شعارات القومية ثم حكمت بالطائفية يجب ألا تحسب على الانتماء اللغوي والتاريخي والجغرافي، وإنما على التشرذم الطائفي والمذهبي وعلى فساد الحكومات التي فرضت نفسها بالانقلابات العسكرية.
ألسنا نقول إن الحكومة المذهبية في إيران عنصرية فارسية؟. لولا هذا الانتماء الفارسي المغلف بالتقية المذهبية لما حكم الملالي إيران أكثر من سنة واحدة.