د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
العقل سر غامض حتى الآن، وكل ما نعرفه عنه دراسات تحوم حول حماه. وأطلق العلماء على الدماغ الذي يرجح أنه آلة إنتاج العقل، عكة الدهن البشرية، The fat in the vat. وطبيعي أن الإنسان في حياته العادية يستطيع أن يفتح أي عكة ويخرج كل ما فيها من دهن أو سمن، لكن «العكة» البشرية التي تحتوي الدهن المحدد لمعرفة الإنسان وعواطفه مختلفة، ولو أخرجنا الدهن البشري خارج الجمجمة لمات مباشرة وفقد كل خصائصه التي تهمنا معرفتها. والأمر ذاته ينطبق على دماغ أو مخ الحيوان فإنه إذا أخرج خارج الجمجمة لا يصلح إلا لعمل السندويش.
لكن طلاب العلم الطبيعيون لا يعرفوا اليأس، وحاولوا سبر أغوار الدماغ بكافة الوسائل مباشرة وغير مباشرة: بالتصوير بأجهزة أشعة حديثة كاشعة «الإف إم آر أي»، عبر مسابر كهرومغنطيسية تراقب تجمعات الأنشطة الكهربائية فيه، أو بالحقن بمواد ملونة كالبوزيترون، أو حتى بالاختراق المباشر في بعض الحالات. فالدماغ يولد كهرباء من بعض التفاعلات الكيمائية في حالة النشاط تمكن مراقبتها ولكن الصعب فهم طبيعتها. ونتيجة لتقدم علوم الطب والأعصاب والنفس، والحوادث التي يتعرض لها البشر وتؤدي إلى تلف في بعض أجزاء الدماغ أمكن تتبع بعض الوظائف الحيوية العقلية للإنسان وتحديد مكانها في الدماغ. وأصبح من الممكن ربط بعض أجزاء الدماغ ببعض المهام العقلية أو الحركية. العلماء اليوم يعرفون ربما كل شيء عن الدماغ، غير أن ما يحيرهم هو ما يسمى بالعقل، الربط بين الدماغ والعقل.
أبحاث كثيرة، في تخصصات مختلفة، تحاول اليوم كشف كنه العقل، منها ما يسمى «بعقل العقل» أو التفكير حول التفكير .Metacognition والعلماء في حيص بيص من أمرهم حول هذا المصطلح بجانبية: البادئة meta التي تعود على مفاهيم مختلفة، أو مصطلح cognition نفسه الذي يجمع دلالات مختلفة من مشارب بحثية يصعب حصرها أو تحديد فهمها لدلالته. وفي العربية بالطبع ترجمه الباحثون كيفما فهموه.
مجبرًا أخاكم لا بطل على هذه المقدمة الطويلة نسبيًا للوصول إلى تقريب مفهوم Metacognition بشكل يقرب الكتابة حول عقل للعقل لفهم الكاتب والقارئ. فهذا المفهوم يتردد بشكل مطرد اليوم لدوره في فهم كثير من الظواهر المهمة في المجتمع لعل من أبرزها الظواهر الاجتماعية والثقافية، والتعليم والتدريب. فالكتابات الحديثة في هذا المجال ترى أن بعض الأسس العميقة المحددة للثقافات واحدة، لكن الثقافات تختلف بشكل كبير في تطورها وفي بعض السمات الخاصة بها. فالأعراف، والمشاعر، والمعارف، والتجارب المجتمعية تطورت وتناقلتها الأجيال بطريقة انتقائية، انتقت منها أنماط معرفية ومعتقدات أخلاقية تمسكت بها دون غيرها، ومارست في ذلك عمليات التفكير في الأفكار السائدة. وتمانع المجتمعات غالبًا في قبول الأعراف والسلوكيات الوافدة سواء كانت فكرية أو أخلاقية أو اقتصادية، ومقولة من شب على شيء شاب عليه صحيحة إلى حد كبير.
وترى بعض الأبحاث أن الطفل في سن السادسة فما فوق يستطيع بشكل محدود ممارسة التفكير الانعكاسي، أي يبدأ يفكر كيف يفكر، ويدخل مرحلة وعي التجريب بالاستراتيجيات الذهنية والتخطيط. وتوصل خبراء في التربية وعلم النفس مؤخرًا إلى فائدة تدريب التلاميذ على مهارات التفكير حول التفكير ليعي التلميذ إستراتيجية التفكير التي يمر بها بشكل نقدي. ولو لقن المعلومات تلقينًا فهو يعي أن الهدف من ذلك هو تقوية ذاكرته فقط. ويمكن تعليمه بأسس التفكير الاستقرائي والاستنباطي عبر بعض مسائل جديدة يركز التعليم فيها ليس على حل إشكالات طارئة بالنسبة له فحسب بل ليتعلم العمليات والاستراتيجيات الذهنية المرتبطة بها أيضا.
ويفرق العلماء بين ثلاثة مستويات من المعرفة: المعرفة المعلوماتية المرتبطة بالحقائق declarative knowledge، والمعرفة الإجرائية المرتبطة بالتنفيذ procedural knowledge، والمعرفة الاستراتيجية
strategically knowledge. والمعرفتان الإجرائية، والاستراتيجية ترتبطان ببعضهما البعض الآخر، وترتبطان دائمًا بقضايا وسياقات معاشية محددة مهمة تمكَن الفرد من تطبيق ما تعلمه. لذا لا يمكن لأي تعليم أو تدريب أن يخرَج خريج حسب ما يحتاجه السوق لأن سياقات العمل وظروفه متنوعة ومتعددة ولا يمكن إدخالها لأروقة المعاهد والجامعات. وينطبق الأمر ذاته على الخطط التنموية حيث لا يمكن نقلها من مجتمع لآخر تلقائيًا رغم تشابه المجتمعات البشرية وذلك بسبب اختلاف السياقات المعاشية، فما يصلح للغرب لا يصلح لليابان، وما يصلح لليابان لا يصلح لماليزيا وهلم جرا. وهنا تكمن خطورة استجلاب حلول ونماذج مستوردة جاهزة، أو أجهزة تخطيط من الخارج تجهل طبيعة المجتمع وثقافته وأساليب تفكيره. والتخطيط لخصوصيات المجتمع لا محاولة تغيير خصوصياته لتقبل التخطيط الوافد أفضل خيار للدول النامية.