عبد الرحمن بن محمد السدحان
* قلتُ الكثير الكثير حول هذا الموضوع حين دوَّنتُ سيرتي الذاتية في كتابي (قطرات من سحائب الذكرى)؛ فهو يروى عني طفولة، فصبا، فشبابًا. وتنتثر على ضفاف هذه المراحل أطياف من الرؤى والعبر، ومشاهد من الفوز والفشل؛ لذا فإن من العسر العسير - في تقديري - أن أستعرض ملامحها بإيجاز عبر هذا الحديث، يمتص منها نكهة المتعة ومهارة السرد.. وكل ما أستطيع قوله في هذا المقال هو أنني أميـل نحو تقسيم مشوار حياتي إلى فصلَيْن مهمَّيْن: أحدهما ما قبل الرحيل إلى أمريكا.. والآخر ما بعد أمريكا، وكل منهما استنفد سنين من عمري، اختلطت فيها حلاوة الفوز إنجازًا، ومرارة الفشل قصورًا في بلوغ المزيد منه!
* * *
مرحلة ما قبل أمريكا:
* كنتُ قبل أمريكا ذا شخصية غامضة الهدف، ضبابية الرؤية، ومضطربة الملامح، رغم ما يكسو سلوكي الخارجي من نشوة الطموح! وكان ذلك خلال فترة وجودي في الرياض.. وحده عشقي للقراءة والكتابة كان يلازمني ملازمة الظل، وكان عشقًا (من أول كلمة)، اكتشفتُ من خلاله بعضًا من أشلاء نفسي المشحونة بجراح الماضي وهزائمه.. أدمنتُ القراءة والكتابة إدمانًا، خشي معه سيدي الوالد - رحمه الله - أن يعوق نموي الدراسي.. ورحتُ أرمم تلك (الأشلاء)، وأعيد بناءها، إما على مقاعد الدراسة، أو في حلقات اللهو البريء مع الزملاء.
* * *
* ثم اقترن اسمي في وقت لاحق بالكلمة المكتوبة في بعض الصحف عبر فترة قصيرة من الزمن. وقبل ذلك كنت أودع (هواجسي) كراسة الإنشاء.. (وأثرثر) فيها بعبارات وتركيبات صياغية، علمتني إياها قراءاتي لطه حسين ومصطفى المنفلوطي وأحمد حسن الزيات.. وغيرهم - رحمهم الله - خلال مرحلة الدراسة الثانوية. وكنت أعشق الكتابة، وأمضي الساعات (ضيفًا) على كراسة الإنشاء. وقد يبلغ إعجاب مدرس الإنشاء بما أكتب أحيانًا حدًّا يجعله يطلب مني قراءة بعض موضوعاتي أمام زملاء الفصل، فيتلعثم لساني، لكن الفرحة كانت تغرّد في كل شبر من كياني!
* * *
مرحلة الدراسة في أمريكا وما بعدها:
* أما المرحلة الدراسية إلى أمريكا فقد كانت مرحلة مفصلية أخرى في حياتي، حين انطلق بي (مكوك) التجربة الجديدة والمثيرة في فضاء من الحرية والثقة والاعتماد على النفس بعد الله؛ فاقتربت من نفسي أكثر (متصالحًا معها)؛ لأكتشف ما كنت أجهله عنها. وهيأ لي تفوقي في الدراسة وفي الحياة الاجتماعية بوجه عام هناك فرصة (المصالحة) أيضًا مع آهات الماضي من جهة، و(التعاهد) مع الحاضر والمستقبل من جهة أخرى، بأن أكون أهلاً للثقة التي وُهبت إياها من لدن وطني الغالي!
* * *
* ورغم ذلك كله أظل مدينًا بعد الله لمرحلة العسر في طفولتي؛ لأنها (فجَّرت) في وجداني جداول من الشفافية، مكَّنتني من الإصغاء إلى طموحات نفسي، وترجمتها إلى أفعال ما استطعتُ إلى ذلك سبيلاً، وكذلك أقامت لي جسورًا، أعبرها نحو الآخرين معرفة ومحبة وفَهمًا.. وهذه - في تقديري - أهم فضائل (التعلم) لبناء الكيان الذاتي للمرء؛ كي يتجاوز أسوار نفسه بسلام إلى العالم من حوله، وبدون ذلك يظل ذلك المرء منا (جزيرة) وحده، بلا جسور.. بلا حدود.. ولا وجود!